رواية غرام الذئاب الفصل الاول بقلم ولاء رفعت
ما بين الحب و الفراق هناك وعد ووفاء... توالت السنوات بيننا و خوضنا معارك مع الحياة... كدت أفلت يدي من قبضتك فكان ذراعك الذي أحاط جسدي هو طوق النجاة... يا مَنْ سكن عشقك صدري لن تجد وطنا سوي فؤادي... أهلكت حصوني حتي اذاب صهر عذابك قراميدها... رفعت رايتي البيضاء واستسلمت... و ها أنا للتو في حرم سلطانك أقدم لك فروض الطاعة والولاء.
استيقظت للتو من النوم وتبحث بجوارها عنه ولم تجده مثل الأمس، فكما أخبرها في اتصال هاتفي لديه رحلة عمل في دولة مجاورة و عليه الحضور للأهمية و سوف يأتي اليوم، و من المفترض سيأتي إليها لدي الشركة خاصتها، نهضت علي الفور بنشاط و حيوية، ولجت إلي داخل المرحاض وفي دقائق انتهت من رويتنها اليومي.
قامت بإجراء اتصال هاتفي وانتظرت ريثما يجيب، لكن لا إجابة، كررت الاتصال وتلقت عدم الرد مرة أخري، زفرت باستياء لأنه تريد أن تخبره اليوم هو افتتاح شركة تصميم الأزياء.
ذهبت سريعاً إلي غرفة الثياب وأخذت تبحث عن الثوب الذي أعددته مسبقاً، كان ثوب باللون الأحمر القرمزي مثل لون التوت، أخذته وقامت بخلع المشجب الخشبي منه ثم شرعت بارتدائه، ألقت نظرة علي نفسها أمام المرآة، كان ثوب بأكمام تصل إلي الرسغين و ذو فتحة رقبة مفتوحة علي شكل مثلث مقلوب، ضيق من الصدر و يتسع من الخصر، يصل إلي أسفل ركبتيها، لقد صُمم خصيصاً لها من قبل أمهر مصممات الأزياء التي تعاقد معها زوجها و جلبها لها خصيصاً من باريس.
وقفت أمام مرآة الزينة وأخذت تصفف شعرها ثم وضعت لمسات من المستحضرات التجميل لا سيما قلم الحمرة التي برزت جمال شفتيها، والخط الأسود الرفيع علي حافة جفنيها، فبدت كملكة جمال حقبة الستينات، أكمل هذه الهيئة حذاء أسود ذو كعب مرتفع.
انتبهت إلي طرق الباب، رفعت رأسها وقالت:
"اتفضلي يا داده زينات"
ولجت الأخرى فأردفت صبا تسألها:
"مالك و زينب فين؟"
"فطروا و قعدوا يلعبوا في الجنينة و بعد كدة طلعوا علي أوضتهم مالك بيلعب بلايستيشن وزوزو نامت"
نهضت و اتجهت إلي غرفة الثياب مرة أخري باحثة عن حقيبة يدها:
"بالله عليكي يا داده خدي بالك منهم لحد ما أرجع، و أدعي لي إن اليوم يعدي علي خير"
رفعت الأخرى كفيها في وضع الدعاء:
"يارب يا صبا يا بنت إيمان شركتك تنجح و تبقي أكبر دار أزياء في العالم"
رددت عقبها:
"يارب"
التقطت الحقيبة وأخذت تضع بداخلها متعلقاتها، اقتربت منها زينات تربت عليها بحنان:
"أطمني علي عيالك دول ولادي و في عينيا، تروحي وترجعي أنتي و أبوهم بالسلامة"
ننتقل إلي حفل الافتتاح حيث بهو الشركة المزين بالبالونات ذات اللون الأحمر و أخري أسود، و زينة ذهبية و بالونات مثلها علي هيئة حروف تشكل اسم الشركة "Seba Group"
كان أغلب الحضور من النساء وسيدات المجتمع، أتوا جميعهن لحضور هذا الافتتاح المهيب و رؤية العرض الأول للأزياء التي صممت علي يد مصممة فرنسية شهيرة.
كان من بين الحضور و قمن بمشاركتها لحظة نجاحها كلا من كارين و علياء زوجات أشقاء زوجها، و كذلك شقيقته الصغرى ملك، بينما خديجة اعتذرت عن الحضور من أجل حالتها المرضية أثر عملية استئصال المرارة.
نعود للأجواء مرة أخري فالحفل منظماً و رائعاً، يتراص المصورون و الصحفيون علي جانبي ممشي العرض يلتقطون صور العارضات، بينما هي تقف داخل مكتبها تشعر بالقلق علي زوجها الذي لم يجب علي اتصالاتها، فهو قد أخبرها بالأمس في الهاتف إنه سيأتي ليشاركها تلك اللحظة، زفرت بسأم فانتفضت عندما قامت إحداهن بالنداء عليها:
"مدام صبا؟"
ألتفت إليها:
"نعم"
أخبرتها مساعدتها:
"أتفضلي حضرتك علي الـ carpet، الناس برة مستنياكي"
أومأت لها وقالت:
"حاضر، أنا جاية"
تركت هاتفها أعلي المكتب بعد أن شعرت بالسأم، ودت لو حضر الآن قبل أن تصعد علي المنصة و تلقي خطاب الترحيب بالحضور.
و في الخارج عندما ظهرت سقف لها الجميع، رفعت كارين يديها لها بتشجيع و برزت إصبعها الإبهام كدلالة علي إعجابها و انبهارها بإنجازاتها، ابتسمت إليها بامتنان و هزت رأسها قائلة:
"شكراً ليكم، شكراً علي تلبية الـ invitation"
ابتلعت ريقها بتوتر ثم تابعت:
"يارب يكون الـ show عاجبكم...
ظلت تتحدث وبداخلها خليط من التوتر والسأم، لأول وهلة تشعر إنها وحيدة من دون وجوده معها في هذه اللحظة، فهو الداعم والمشجع لها كما وعدها عندما قام بالتصالح معها في اليخت.
ها قد قاربت علي الانتهاء من حديثها:
"و في النهاية أشكر زوجي وأبو أولادي علي دعمه ليا، و أهديه كل نجاح هاحققه إن شاءالله"
تعالي السقف وتردد في الأرجاء، لم تتحمل الوقوف أكثر من ذلك فأومأت لهم بشكرٍ ثم ذهبت سريعاً إلي الداخل متجهة نحو غرفة مكتبها و دبيب قلبها يسبق خطواتها.
فتحت الباب وتعجبت من الظلام، فهي قد تركت الغرفة مضيئة، أخذت تبحث عن زر الإضاءة فانتفضت فجأة عندما أُغلقَ الباب، شهقت بخوف والتفتت، كادت تخطو نحو الباب فاصطدمت بجسد هذا المنتظر والمشتاق إليها، أطمئن فؤادها حينما قال لها بصوته الأجش:
"كل سنة و أنتي معايا"
اشتعلت المصابيح والتي تتنوع ما بين اللون الأحمر والأصفر الذهبي، أخذت تنظر من حولها و عيناها تنضح بعدة أسئلة، و بفطنته علم دون أن تنطق بها، حاوط خصرها بيديه قائلاً:
"أنا لسه واصل من عشر دقايق، أول ما أنتي خرجتي من المكتب، و أنا اللي زينت المكتب بنفسي"
أشار إليها نحو البالونات الطائرة في الهواء، أخرج هاتفه و ضغط علي مشغل الموسيقي، بدأت معزوفة رومانسية في العمل، استدار بزاوية و حمل بين يديه صندوقاً مغلف بالمخمل الأحمر و مزدان بشريط من الحرير الأسود، وضعت كفها علي شفتيها بسعادة تغمرها
"أنا لو جيبت لك كل كنوز الدنيا بين إيديكي، برضو هيبقي قليل عليكي"
حدقت إليه بنظرة تفيض من الحب والشوق الكثير والكثير، أخذت الصندوق من يديه وقالت:
"بصراحة خوفت لتنسي حفلة الإفتتاح و ماتجيش، كنت مستنياك"
ابتسم بحب ووداعة يخبرها بكل ما يكنه لها من العشق:
"عمري ما أنسي أي حاجة تخصك، و زي ما أنتي عارفة أنتي هنا و هنا ديماً"
أشار إلي قلبه ثم إلي رأسه، تركت الصندوق أعلي المكتب و ألقت بجسدها بين ذراعيه تعانقه بقوة، تستنشق رائحة عطره بقوة، تقترب بشفتيها نحو أذنه لتهمس إليه بعشق واشتياق:
"واحشني"
وقامت بطبع شفتيها علي عنقه نتج عنها إضرام نيران قد اشتعلت للتو في جسده، و ما هي سوي نيران الشوق والولع، وضع كفه علي خدها يداعب بشرتها الملساء، و عيناه تنضح بكل ما يشعر به في تلك اللحظة الحالمة:
"مش أكتر من شوقي ليكي"
أختتم جملته بقبلة يسبقها الهدوء ما قبل العاصفة، ألتهم شفتيها بنهم معانقاً إياها بقوة وكأنه سيفقدها إذا ابتعدت.
همهمت بصوت لم يتمكن من الخروج من شفتيها الأسيرة بين خاصته، أبتعد بلهاث ينظر إليها يسألها:
"فيه إيه؟"
ابتسمت وأشارت إليه بعينيها نحو الباب قائلة:
"ممكن حد يدخل علينا دلوقت"
ذهب نحو الباب وقام بوصده بالقفل الداخلي ثم عاد إليها و يخلع سترته فامتدت يده إلي ربطة العنق ليقوم بفكها:
"أطمني قايل للـ security يقف علي أول المدخل اللي برة و ممنوع حد يعدي حتي من قدام المكتب"
ارتفع حاجبيها وسألته بتعجب وسعادة في آن واحد:
"أنت ناويها بقي؟"
ألقي الربطة فوق المكتب وكاد يفك أزرار قميصه:
"بحتفل بشغل مراتي بس علي طريقتي"
غمز بعينه، سبقت يديها يديه نحو أول زر في قميصه قائلة بدلال جعل خلايا جسده تحترق عشقاً:
"تسمح لي أشاركك في الاحتفال"
بدأ احتفال الملك وزوجته علي أضواء الحب المتوهجة مثل قلوبهم المتقدة بنيران العشق الأسر، يطوقها بذراعيه و أنطلق بها في رحلة ذهاب أعلي غيوم العشق الوردية بينما العودة من الرحلة ستكون آمنة علي أرض الوطن، فموطنها صدره الحنون الذي يحتويها دائماً في كل اللحظات لديها، الحزن قبل الفرح، فهو شريك كل لحظة فرح و أمل و نجاح معها بل هو شريك عمرها، و هي لديه كما وشمَ أعلي صدره _ صبا القلب والروح _.
❈-❈-❈
و في الخارج تجلس لوچي تنظر إلي شاشة الهاتف كل فينة والأخرى حتي انتبهت إليها علياء
"فيه حاجة يا لوچي؟"
ابتسمت الأخرى بتوتر وأجابت باستنكار
"لاء يا لولو، مفيش قصدي يعني كنت مستنية واحدة صاحبتي هتعدي عليا عشان رايحين نزور واحدة صاحبتنا تعبانة بقالها كام يوم"
"طيب ليه مقولتيش كنت روحت أنا و أنتي و زورنا صاحبتك قبل ما نيجي علي هنا"
ابتلعت لعابها و مازالت ترسم البسمة علي شفتيها لتخفي توترها الناتج عن الكذب
"مفيش داعي أتعبك معايا، هي ساعة زمن و هاروح علي القصر علي طول، خليكي هنا مع unte كارين وصبا، و لو في أي حاجة هاتصل عليكي، Don't worry "
أومأت إليها زوجة ابيها و ابتسمت
"روحي و ما تتأخريش"
نهضت من جوارها و دنت منها لتعطيها قبلة علي وجنتها ثم ذهبت مسرعة إلي الخارج، غادرت الشركة و المكان بأكمله وقامت بالاتصال علي الذي ينتظرها، وضعت الهاتف علي أذنها و تسير دون انتباه، و إذا بيد تجذبها نحو مكان هادئ بعيد عن الأنظار، شهقت حينما نظرت إليه
"عمر؟"
"قلبه، كل ده عشان أشوفك؟!"
ابتسمت بخجل و تجذب ذراعها من قبضته الحانية، تتهرب من نظراته المصوبة نحو عينيها، يكفي قربه المهلك هذا.
"مكنش هاينفع أخرج غير لما يخلص الديفليه، unte صبا كانت هاتزعل مني"
رفع يده وأخذ يلمس خصلات شعرها المحيطة بوجهها
"أنا اللي كنت هازعل لو مكنتش شوفتك، أنتي وحشاني أوي أوي"
أبعدت يده عن خصلاتها
"عمر please، ما بحبش الحركات دي"
ابتسم و رفع كفيه
"أنا كنت بس بزيح شعرك عشان بيداري عني القمر اللي أنا شايفه قدامي"
نظرت إلي أسفل بخجل و تخضبت وجنتيها بالحمرة، اطلق ضحكة علي هيئتها
"ده أنا شكلي مش هابطل غزل فيكي عشان اشوف خدودك الحلويين دول"
"بس بقي يا عمر"
غمز بعينه وأومأ
"حاضر، يلا بينا بقي عشان نلحق نستمتع بالساعتين اللي هانخرج فيهم مع بعض"
رفعت وجهها و رمقت باستفهام
"ساعتين إيه؟، هي ساعة واحدة بس و لا دقيقة زيادة"
"طب يلا بينا عشان الساعة خلصناها و احنا واقفين و كمان محضرلك مفاجأة"
مد يده لها لتمسك بها لكن نظرت إليه ثم ليده فتقدمت نحو الإمام، هز رأسه
"ماشي هعديهالك المرة دي"
اتجه نحو سيارة سوداء، فتح الباب الأمامي وولجت إلي الداخل، أغلق الباب و ألتف إلي الجهة الأخرى حيث مقعد القيادة، جلس ثم انطلق بالسيارة ذات المظهر الفاره.
بعد قطع مسافة ليست ببعيدة صف السيارة أمام مرسي علي ضفة نهر النيل
"إحنا وقفنا هنا ليه؟"
"عايز أقضي وقتنا زي ما بتمني، مركب بشراع و أنا و أنتي والهوا و الميه"
انتهي من حديثه و ظل يحدق إليها، ابتسمت و تجلت السعادة علي وجهها
"هاتفضل باصص لي كده كتير؟"
"بملي عيني منك قبل ما الوقت يسرقنا"
نظرت إلي الجهة الأخرى بخجل فاردف
"رجعنا نحمر تاني"
و اطلق ضحكة اثارت حنقها فالتفت إليه ولكزته في كتفه، هبط كليهما من السيارة و سارت معه نحو المرسى، كان بانتظارهما صاحب المركب الشراعية، صعدت داخلها و تبعها، هيهات و أخذت المركب تبحر، كانت تشعر بالخوف فطمئنها حينما جلس جوارها و تشبثت بذراعه و تتلفت من حولها تخشي منظر مياه النيل الأزرق القاتم وانعكاس أشعة شمس العصر تجعلها تتلألأ كالزجاج.
رست المركب علي شاطئ في الضفة الأخرى
"عمر، احنا ما رجعناش ليه مكان ما ركبنا؟"
سألته وتنظر من حولها بقلق، أجاب ممسكاً بيدها لبث الطمأنينة إليها
"ما هي دي المفاجأة، حبيت أفرجك علي أحسن مكان برتاح فيه نفسياً، فيا سلام بقي لو المكان ده معايا فيه البنت اللي بحبها"
هبط من المركب و مد يده إليها لتستند عليها و تهبط هي الأخرى، أخرج من جيبه شريط من القماش
"ممكن تثبتي مكانك و تغمضي عينيكي؟"
"هاتعمل إيه؟"
"إيه يا لولو، بالتأكيد مش هخطفك هغمي عينيكي بس، من باب التشويق يعني للمفاجأة"
اغمضت عينيها
"أوك"
وضع الشريط علي عينيها وأمسك بيديها فسار بها نحو كوخ متطرف بين الزرع الكثيف، كل خطوة يتبعها قلق يداهم قلبها
"وصلنا؟"
"اه خلاص وصلنا، خطوتين كمان و هاشيل الشريطة وتقدري تفتحي عينيكي"
شعرت بقدميه قد توقفت ووقف خلفها ليزيح العُصابة من عينيها
"تقدري تفتحي عينيكي"
بدأت تفرج جفونها فبدأت الصورة ضبابية قليلاً حتي اتضحت الرؤية و رأت كوخاً خشبياً قد جاء من كتب أساطير العشاق، مبني من الخشب الأبيض المطلي حديثاً و يزينه بالونات حمراء اللون، موضوع أمام الباب باقة كبيرة من زهور الجوري الحمراء و جوارها صندوق هدايا أسود مُزدان بشرائط من الحرير الأحمر، لا تنكر مدى سعادتها عندما رأت هذا المنظر الذي اختطف قلبها من أول وهلة، لكن هناك ما يقلقها أو أثار الشك والريبة داخلها، تراجعت خطوة إلي الوراء و كانت علي وشك الرحيل
"أنا عايزة أمشي من هنا"
قاطع طريقها واقفاً أمامها
"رايحة فين، استني هنا أنتي فاهمة غلط"
"جايبني في مكان غريب و بعيد، و شايفه قدامي كوخ عايزني افهم إيه؟، أنا وافقت أخرج معاك اه، بس أي حاجة في دماغك انساها"
كاد يمسك يدها فأبعدت يده
"ما تلمسنيش"
رفع يديه في وضع الاستسلام
"حاضر مش هلمسك، بس أنا مش في دماغي أي حاجة خالص، أنا حبيت أجيبك المكان ده لأن بحبه أو لما بكون مخنوق باجي ارتاح فيه، و أنا مش برتاح غير في وجودك"
تنظر إليه في محاولة تصديق كلماته
"أنا عارف أنك خايفة و قلقانة بس أنا أحب اطمنك عمري ما هأذيكي، بالعكس أنا جايبك في أكتر مكان أمان، عايزك تثقي فيا"
أطلقت زفرة وأخبرته
"أوك، بس مش هانقعد كتير، شوية و هانمشي"
"حاضر، أهم حاجة تكوني مطمنة"
اتجه إلي باقة الزهور و الصندوق و حمل كليهما، مد يده بالباقة إليها
"كل عيد حب و أنتي معايا"
أخذت الباقة وابتسمت
"و أنت طيب"
"اتفضلي أفتحي الصندوق"
قام بإمساك الصندوق بكلا يديه، قامت بفتحه ظهر لها داخل الصندوق كم من الحلوى و الشوكولا، صاحت بفرح
"واو، الحلويات و الشوكليت اللي بحبها"
"و كل الأنواع المفضلة ليكي"
مدت يدها لتأخذ قطعة فأوقفها
"مفيش حلويات قبل الأكل، ده أنا مجهزلك أكلتك المفضلة"
ولج سوياً داخل الكوخ، فكان الداخل أروع من الخارج، الأرض مغطاة بأوراق الزهور، كاد يغلق الباب خلفهما أوقفته علي الفور
"لاء، سيبه مفتوح"
"سواء مفتوح أو مقفول مش فارقة، مفيش حد غيرنا في المكان، عموماً هاسيبه مفتوح عشان تكوني مطمنة"
ولج إلي الداخل، تركها تقف في وسط الردهة
"خدي راحتك، هادخل اعملنا أكلة حلوة عشان واقع من الجوع"
"كنا أتغدينا في أي مطعم أحسن"
جاء صوته إليها من داخل المطبخ
"لاء أنا هعملك أكلة عمايل إيديا و لا أجدعها شيف فيكي يا مصر، واثق إنها هاتعجبك"
"لما نشوف"
قالتها وكانت تتجول داخل الكوخ حتي انتبهت إلي وميض هاتفه، سيطر عليها الفضول فاقتربت من الهاتف ونظرت إلي الشاشة فوجدت اتصالا وارداً باسم «سارة»، انتابتها مشاعر الغيرة ولم تشعر بحالها سوي و هي تضغط علي قبول وتضع الهاتف علي أذنها، سمعت صوتاً أنثوياً
"ألو يا مازن، أنت فين؟"
شهقت بفزع عندما اختطف منها الهاتف وأغلق المكالمة سريعاً بل أطفأ الهاتف ذاته
عبست و سألته بعدم استفهام
"مين سارة و بتقولك يا مازن ليه؟"
ألقي هاتفه داخل جيب بنطاله و أخفي توتره
"دي أختي و بتحب تناديني مازن"
"لو هي أختك مش بترد عليها ليه؟"
"هاكلمها بعدين"
و إذا يجذبها علي حين غرة
"تعاليلي هنا بقي، إحنا فينا من أولها مين دي و تفتشي الفون؟"
"ياريت تجاوب علي سؤالي"
"ما أنا جاوبتك، مش مصدقة إنها أختي، ممكن أتصلك عليها حالاً و أعمل speaker عشان تسمعي بنفسك"
بدي علي وجهها الراحة بعد أن استشعرت صدق ما يخبرها إياه
"مفيش داعي تعمل كدة، دي حياتك و أنت حر فيها"
التقطت حقيبة اليد خاصتها و كادت تذهب، امسك رسغها و منعها من ما هي مقبلة عليه
"لوچي"
تنهدت ثم حدقت إليه
"نعم؟"
"أنا مش خاين، و لا عمري هاخونك، لأن أنا من أول مرة شوفتك فيها حاجة شدتني ليكي، والانجذاب اتحول لحب، و اللي بيحب حقيقي عمره ما بيخون اللي بيحبه"
اقترب منها فلا مفر لها، خلفها الحائط الخشبي وأمامها هو، يحاصرها بأنفاسه و بكلماته التي طرقت علي باب فؤادها فانفتح علي مصرعيه، ابتلعت لعابها وصوت النبض يدق كالناقوس داخل مسامعها، اغمضت عينيها وتخبره بشق الأنفس وهي تخشى أن يرى ضعفها
"عمر، please ابعد"
"و لو ما بعدتش؟، هاتعملي إيه؟"
استند بيديه علي الجدار حيث احاط بها من كلا الجانبين، كانت بين قاب قوسين و شفتيه علي مقربة شديدة تفرقت عندما تابع
"هقولك أنا"
لم يعط لها فرصة للاعتراض وباغتها بقبلة يتخللها عناق، قاومت قليلاً و هيهات وأصبحت المقاومة في مهب الريح!
❈-❈-❈
تمسك بيد صغيرها وتقف أمام منزل في حي هادئ، تنتظر هذا الشيخ الكبير يفتح البوابة الحديدية الصدأة والتي اصدرت صوت اصطكاك مزعج
"اتفضلي يا ست أم حمزة، و خدي دول نسختين مفاتيح واحد للشقة وواحد للبوابة، مفيش حد غيرك هايسكن هنا، و لو محتاجة أي حاجة رقمي معاكي، كلميني علي طول"
"تسلم يا حج"
و ربت علي رأس ابنها بحنان
"وأنت يا حمزة خد بالك من ماما"
ابتسم إليه ببراءة وردد بطريقة حديثه الخاصة
"حمزة بيحب ماما أوي"
بادله العجوز الابتسامة وعقب
"ربنا يباركلك فيه، هستأذن أنا بقي"
ولجت داخل الفناء ثم فتحت باب المنزل، أخذت تنظر من حولها، ها قد عادت إلي الفرار والوحدة من جديد، كانت لا تريد فعل ذلك بعد أن حيا قلبها بعشقه و أصبح الحب بينهما قولاً و فعلاً، لكن ما حدث ذلك اليوم التي أصبحت فيه ملكه قلباً و قالباً جعلها تراجعت آلاف الخطوات إلي الوراء.....
«حدث سابقاً»
لم يشعر كليهما بصوت مقبض باب الغرفة، يتحرك ببطيء فانفتح الباب و ظهرت قدمان ترتدي صاحبتها حذاء أسود ذو كعب مرتفع، تسمرت في مكانها عندما رأت ابنها غارقاً في بحور عشق الخادمة التي انجبت من شقيقه سِفاحاً وقام زوجها بتصحيح هذا الوضع و جعلها زوجة ابنه الذي كان قد توفى، و كل ذلك تم عبر الأوراق الرسمية ليصبح ابن ولده حفيده الشرعي و قبل وفاته قام بكتابة كل أملاكه باسم الحفيد، لم يكن يعلم حينها أن تلك الأفعى الشيطانة زوجته و أم ولديه لن تظل مكتوفة الأيدي، قامت بالتخطيط كلاعب الشطرنج، تراهن علي الفوز بتحريك الحصان، و كانت لا تدري أن هذا الحصان سيقع في عشق أنثاه و يحميها من بطشها بل ويخبئها في مأمن بعيداً عن أذرع شرها، و بذلك سيضرب كل ما خططت إليه في عرض كل الجدران التي ظلت حبيسة داخلها لأيام قبل أن تعلم بعنوان هذا المنزل من أحد رجالها المخلصين.
أبيضت مفاصل أنامل يدها التي تمسك بمقبض الباب، صاحت و كأن تمسك نجلها بالجرم المشهود مع زوجته!!
"أحمد؟"
انتفض كليهما و ردد ابنها
"ماما!"
حدقت نحوهما بازدراء وباقتضاب أمرته
"ألبس هدومك، هستناك في الـ living room "
خرجت وأغلقت الباب خلفها بعنف، بينما هو ألتفت إلي علا التي كانت في موقف لا تُحسد عليه، أمسك يدها وشعر بالرجفة التي تسري في جسدها
"مش عايزك تخافي من أي حد و لا من أي حاجة طول ما أنا معاكي"
نظرت إليه بعينين يغلب عليهما الخوف والتوتر
وكان لسانها يعجز عن الرد اكتفت بهز رأسها فأكمل ويحيط وجهها بين كفيه
"خليكي هنا لحد ما أجيلك"
و اقترب بشفتيه نحو جبهتها فقام بتقبيلها ثم ابتعد رويداً فنهض، و في الخارج تقف في منتصف الردهة تعقد ما بين حاجبيها، تتأمل صورة ولدها المعلقة علي الحائط، تحدق بتحديٍ سافر و يدور في رأسها ألف وعيد حتي انتبهت مسامعها إلي صوت خطواته بالقرب منها
"مش هسألك عرفتي منين مكان شقتي، بس ممكن اعرف إيه سبب زيارتك المفاجأة؟"
أطلقت زفرة ودون أن تكلف نفسها عناء الالتفات له فأجابت ومازالت موليه ظهرها إليه
"جيت عشان أشوف خيبتك للمرة التانية، و أشوف بعيني و أنت في حضن البت الخدامة اللي قدرت تضحك علي أخوك و بعدها أبوك و للأسف قدرت توقعك أنت كمان"
كان يستمع إليها و يجز علي أسنانه فعقب قائلاً
"أولاً هي ليها اسم و ثانياً مفيش داعي لكلامك اللي أنا و أنتي عارفين كويس حقيقة اللي حصل، إما ثالثاً و أخيراً علا تبقي مراتي علي سنة الله و رسوله، و اللي شوفتيه جوه ده شيء طبيعي ما بين أي راجل ومراته"
وإذا بها تتلفت فجأة وصاحت برفض
"أنا ما بتكلمش علي اللي كنت بتهببه معاها، أنت فاهم قصدي كويس، أنا عارفة من أول يوم لما جبناها هي وابنها علي الفيلا أنت أول ما شوفتها دخلت دماغك وعاجبتك، و لما اتفقت معاك تتجوزها عشان نخلص من الكارثة اللي باباك عملها فينا و تبقي تحت عيننا هي و ابن أخوك، طبعاً قلبك الحنين وقع في حبها وقدرت تقنعك أنك تسيب الفيلا، أنا عديتلك كتير قبل كدة لكن المرة دي مش هاسكت"
يقسم داخله أنه يرى في عينيها شر يتطاير، خفق قلبه وجلاً علي زوجته فتعمد قول ذلك عله يتقي شر والدته لكن هناك من فتحت باب الغرفة قليلاً بعد أن انتهت من ارتداء ثوب محتشم، سمعت قوله الزائف
"و ليه ما تقوليش إن أنا حبيت أثبتلها حبي ليها عشان تثق فيا و أعرف أنفذ اتفاقي أنا و أنتي"
اقتربت منه ووضعت يدها علي كتفه
"أنت بتضحك عليا و لا علي نفسك؟!، و لا تكون فاكرني عيلة صغيرة هاتصدق الكلمتين اللي قولتهم!، عيب لما تكذب علي شيري الشريف اللي ربيتك و علمتك أصول اللعب"
حاول بكامل طاقته أن يظهر لها صدقه
"ما هو التلميذ بيتفوق علي استاذه، وأنا ما بكذبش عليكي، كل اللي طالبه منك شوية وقت و كل حاجة هتم زي ما أنتي عايزة"
رفعت احدى حاجبيها
"هحاول أصدقك، بس لو طلعت بتستغفلني يا أحمد، ما تزعلش من اللي هاعمله، ساعتها مش هتلوم غير نفسك"
ابتسامة لم تصل إلي عينيه ونظرة وعد زائف
"اطمني، قريب أوي كل حاجة هاترجع لنا"
و لدي علا بعد سماعها كل ما قيل شعرت بغصة بل بزلزال قام بهدم كل ما شيده زوجها من آمال ووعود أعطاها إياها، تردد و عينيها قد بدأت الدموع بالتجمع داخلها
"لاء، لاء، ده أكيد بيكذب، مستحيل يكون بيخدعني، هو بيحبني فعلاً، و جابني هنا أنا و ابني عشان يبعدني عن شر مامته"
وقفت أمام مرآة الزينة وكأنها تتحدث مع شخص آخر
"و إفرضي بيخدعك و كل وعوده ليكي مجرد وهم، هاتعملي إيه؟!"
هزت رأسها تحاول رفض استيعاب و إدراك ما قد سمعته فاستسلمت إلي حالة البكاء التي انتابتها للتو، أخذت تبكي حتي رأت المقبض يتحرك ويُفتح الباب، قامت بمسح دموعها سريعاً و تظاهرت بعدم معرفتها أو أنها قد سمعت الحوار الذي دار بينه و بين والدته
اقترب منها و جثى علي ركبتيه أمامها، يمسك بكلتا يديها
"اطمني يا حبيبتي، هي جت عشان تعرفني أن أنا مهما أخدتك و هربنا علي أي مكان، هاتقدر توصل لنا"
كانت تنظر صوب عينيه لعلها تصدق هذا الصوت الذي داخلها يخبرها بأنه يحبها حقاً و ربما ما قاله كذباً وذلك من أجل حمايتها من شر والدته
"مالك بتبصي لي كدة ليه؟"
صمتها أثار الريب داخله فأدرك علي الفور سماعها لما قاله منذ قليل، تنهد وأخبرها
"ما تصدقيش أي كلمة قولتها ليها، كان لازم أكذب عليها عشان أحميكي أنتي و حمزة، مكنش ينفع أقف قصادها و اتحداها و أنا معرفش هي ممكن بتفكر أو ممكن تعمل إيه، وللأسف هي في الأول و الأخر أمي"
سحبت يديها من خاصته و نهضت متجهة نحو النافذة، تتجنب النظر إليه مباشرة وتخبره
"و جايز جداً كل اللي قولته ليها صح، و أنك فعلاً أوهمتني بالحب و خلتني أصدقك عشان أديلك الثقة و الأمان، منها أكون أنا و ابني تحت إيدك و سيطرتك أنت و مامتك"
ألتفت إليه وابتلعت غصتها واستطردت حديثها الذي ألم قلبها قبل أن تلقيه علي أذنيه
"و منها تنول مُرادك مني تحت مسمي الجواز"
غر فاه بصدمة
"أنتي بتقولي إيه؟"
تقدم نحوها ووقف أمامها وجهاً إلي وجه
"معقول أنتي شيفاني واحد وسخ أوي كدة؟!"
عقدت ساعديها أمام صدرها و تظاهرت بالتماسك أمامه
"أومال اتجوزتني ليه، قصدي أجبرتوني أنت و مامتك تحت الضغط و التهديد بأنكم يا أقبل الجواز منك يا تاخدوا مني ابني"
"أنا اتجوزتك عشان بحبك، و كل كلمة ووعد قولتهولك بجد، مش بكذب عليكي"
كادت تبتعد من أمامه أوقفها ممسكاً بيدها
"أقفي و بصيلي و أنا بكلمك، أنا هعذرك عشان لسه ما تعرفنيش كويس، و أنا هاثبتلك مع الأيام إن أنا ما بكذبش عليكي"
"و أنا كل اللي عايزاه إن أنا و ابني نعيش في سلام، بعيد عن جو المؤامرات و الكذب، وواضح أن شيري هانم مش هاتسيبك تكمل معايا و هتأذيني أو تأذي ابني عشان شوية فلوس و أملاك أنا أصلاً مش عايزة منهم أي حاجة"
تجمعت العبرات في عينيها مجدداً و أكملت بنبرة وشيكة علي البكاء
"أنا مش عايزة أتوجع تاني، و لو اضطر الأمر اختار ما بين ابني و ما بين قلبي هـ....
توقفت قبل إطلاق كلمات بمثابة الرصاصة، لكن ملامحه تخبرها بأن صدمته تتفاقم و بدلاً من الوثوق به والوقوف جواره أمام الصعاب فها هي تُصرح بعدم تحملها لهذا الوضع، لم يرى سوي أنانيتها و ليس الخوف علي فلذة كبدها
"كملي، قولي اللي كنتي هتنطقيه دلوقتي، عايزاني ابعد عنك عشان خايفة علي نفسك، و مش مهم البني آدم اللي حبك و مستعد يعمل أي حاجة عشانك"
صاحت بأنكار تام:
"أنا مش خايفة علي نفسي، أنا بخاف علي ابني اللي مالهوش حد غيري"
"و أنا؟"
لن يكن سؤالاً عادياً فأجابتها يتوقف عليها كل ما هو قادم بينهما، اغمضت عينيها وتمنع عبراتها بصعوبة بالغة، فتحت عينيها ثم أخبرته
"أنت أحمد بيه و أنا علا اللي كانت بتشتغل خدامة عند أخوك اللي اعتدي عليها و حملت منه"
كلماتها كالرياح التي عصفت علي جمر خامد فأشعلته، استيقظ الوحش داخله و يخشى عليها من غضبه الضاري، جز علي أسنانه حتي برزت عظام فكه و عروق عنقه النافرة، يكور قبضتيه بقوة فهربت الدماء من مفاصل أنامله، و في غضون لحظات اختفي من أمامها قبل أن يرتكب فعلاً سيندم عليه لاحقاً.
سمعت صوت إغلاق الباب بقوة و اهتزت جميع نوافذ المنزل مما أيقظ الصغير مرتعداً، خرج من غرفته و أتي إلي والدته، عانقها و يحتمي بها
"ماما، حمزة خايف"
قامت بمعانقته والتربيت علي ظهره بحنان و حماية
"متخافش يا حبيب ماما، مش هاسمح لأي حد يقرب منك أو يبعدك عني أبداً"
عودة إلي الوقت الحالي...
تقف داخل الشقة الجديدة المستأجرة، تنظر من حولها و تتأمل الأثاث البسيط، انتبهت إلي صوت رنين هاتفها والذي استبدلت شريحته بشريحة اتصال جديدة لا يعلم عن رقمها أحداً سوى هذا المتصل
"ألو يا عم صابر أنا لسه وصلة حالاً أنا و حمزة"
"معلش بقي يا بنتي، معرفتش أكون معاكي، أنتي عارفة أي خطوة ليا متراقبة من الهانم"
"أنا عارفة، كتر خيرك كفاية أنك قدرت تلاقيلي شقة إيجار بالسرعة دي، و زي ما قولتلك بالله عليك أوعي أحمد يعرف مكاني، مهما ضغط عليك قوله ماتعرفش"
"ما تقلقيش، و لو حصل أي جديد هابلغك علي طول، في حفظ الله أنتي و ابنك"
"تسلم يا عم صابر، مع السلامة"
أنهت المكالمة وألتفت إلي ابنها و كادت تتحدث، وجدته يمسك باللوح الإلكتروني يتأمل صورة تجمع بينه و بينها و ثالثهما أحمد، خفق القلب شوقاً و دمعت عينيها ألماً، ودت لو عادت إليه وألقت نفسها بين ذراعيه، لن تنكر شعورها بالأمان حينما كانت معه، لكنها ظنت أن الأمان الحقيقي هو الابتعاد عن كل ما يخص والدة زوجها.
❈-❈-❈
في داخل أحد الأحياء الشعبية في محافظة الإسكندرية، تجلس داخل مكتبة لبيع الأدوات المدرسية وتصوير المستندات، تمسك بين يديها المصحف الشريف و تتلو الآيات بصوت خافت، وقفت فتاة أمام خزانة العرض الزجاجية وقالت
"أميرة، معلش صوريلي الملزمة دي بسرعة الله يخليكي"
"صدق الله العظيم"
تفوهت بها الأخرى ثم طوت الصفحة التي كانت تتلو منها الآيات وتركت المصحف فوق المنضدة فنهضت ثم ذهبت إلي الفتاة
"عايزه كام نسخة؟"
"نسخة واحدة"
أخذتها الأوراق منها ووقفت أمام ماكينة تصوير الأوراق، و إذا بها تشعر بدوار مفاجئ كادت تقع فاستندت علي الماكينة، دخلت إليها الفتاة تسألها بقلق
"أنتي كويسة؟"
رفعت يدها وأخبرتها بصوت شبه مسموع
"أنا بخير"
"فيه إيه يا أميرة مالك؟"
كان صوت هذا الرجل العجوز الذي دخل للتو، أجابته الفتاة
"كانت بتصور ليا الملزمة وفجأة لاقيتها كانت هاتقع من طولها"
"معلش يا إسراء، سنديها لغاية بيت الحاجة خيرية و ما تسيبهاش لغاية ما تدخل البيت"
"لاء يا عم خليل، أنا بقيت كويسة"
قالتها أميرة واعتدلت واقفة لكن يبدو علي وجهها علامات التعب، فاخبرها الأخر
"كويسة إيه بس، ده أنتي وشك لونه زي الكركم، روحي النهاردة و ارتاحي و لو بقيتي أحسن بكرة أبقي تعالي، الشغل مش هايطير"
ذهبت معها الفتاة إلي أمام باب ذاك المنزل القديم وقامت بالضغط علي زر الجرس وانتظرت حتي فتحت لهما امرأة في العقد السادس من عمرها
"إيه ده، مالك يا أميرة حصلك إيه يا بنتي؟"
أخبرتها الفتاة
"ما تقلقيش يا خالتي، هي تعبت فجأة و داخت فعم خليل قالي أوصلها لحد عندك"
"تسلمي يا إسراء، اتفضلي يا حبيبتي"
"شكراً يا خالة، أصل ورايا درس بعد ربع ساعة و نخافوا نتأخروا، عن أذنك"
أمسكت خيرية بيد أميرة وسارت بها داخل الفناء ثم إلي داخل الشقة ذات الأثاث الزهيد
"قولتلك مية مرة يا بنتي بلاش شغل، الحمدلله المعاش بيكفينا، برضو ما بتسمعيش الكلام و تعبة نفسك و تعبة قلبي معاكي من المناهدة"
جلست أميرة علي المقعد ذو الوسائد القطنية
"اقعد اعمل إيه يا ماما خيرية، القعدة في البيت بتتعبني أكتر، بحاول ألهي نفسي في شغل المكتبة"
"و كلام الدكتور و تحذيره ليكي لما تعبتي المرة اللي فاتت، قالك بلاش تجهدي نفسك عشان حالة الإغماء اللي بتجيلك كل فترة دي"
"حاضر يا ماما، عم خليل أدالي راحة النهاردة"
رفعت الأخرى سبابتها محذرة إياها
"اعملي حسابك مفيش شغل خالص"
أومأت و رددت باستسلام
"حاضر"
"يحضرلك الخير يا حبيبتي، يلا قومي اغسلي إيديكي عملنالك صينية سمك و معاه رز صيادية هتاكلي صوابعك وراه"
نهضت الأخرى و ذهبت تفعل ما أمرتها به هذه السيدة الحنون ذات الملامح السمحة، تتميز وسط جيرانها بالطيبة وحسن الأخلاق.
صدح رنين جرس المنزل فصاحت
"حاضر ياللي علي الباب"
فتحت الباب فظهر لها رجلاً يرتدي حلة سوداء و نظارة طبية، يبتسم لها
"مساء الخير يا حاجة خيرية"
"أهلاً وسهلاً، مين حضرتك؟"
"أنا المتر حسين الغمري، جاي بالنيابة عن ثروت بيه عشان نخلص إجراءات بيع البيت"
تحولت ملامحها في لحظة من الهدوء إلي الغضب العارم
"أنتم تاني!!، هو البيه بتاعك ده مش هيتلم غير لما نهزقوه، قولنا مليون مرة مش هنبيع البيت، ما يروح للبيوت المعروضة للبيع علي الإمة و لا بيتي أنا اللي عليه سكر "
"يا هانم اسمعيني الأول، مش يمكن العرض اللي هقدمه لحضرتك أحسن من اللي قالك عليه البيه المرة اللي فاتت"
"إن شاء الله لو عرضت مية مليون أني مش هنبيع البيت حتي لو بقي خرابة، روح قول للبيه لما نبقي نموت يبقي يجي يشتريه من الورثة، و بلغوا سلامي"
أغلقت الباب في وجهه، جز الرجل علي أسنانه بحنق وغادر علي الفور، بينما في الداخل، خرجت من المرحاض تجفف يديها بالمنشفة القطنية
"كنتي بتكلمي مين يا ماما خيرية؟"
"الراجل اللي معندهوش دم اللي اسمه ثروت، باعتلي المحامي بتاعه عشان يقنعني نبيع البيت، هو اشتري البيت اللي علي يميني و التاني اللي علي شمالي و عايز يشتري بيتي عشان يهدهم التلاتة و يبني أل إيه مول"
"طيب يا ماما أنتي ليه رافضة تبيعي، أنا سمعته المرة اللي فاتت عرض عليكي مبلغ حلو أوي و شقة في العجمي"
تنهدت الأخرى واخبرتها
"أني رافضة لسببين يا أميرة، الأول زي ما أني حكينا لك قبل كدة، البيت ده مش مجرد حيطان عايشين جواها، دي ذكريات و أجمل سنين العمر عيشتها ويا المرحوم لحد ما مات و سابلي العيال صغيرين، أني اللي ربيت و علمت لحد ما كبروا و هجروا علي إيطاليا، تقدري تقولي البيت بقي جزء مني، روحي فيه"
حدقت إليها أميرة و تشعر في آن واحد بحنين لا تعلم لما هذا الشعور، سألت الأخرى
"و السبب التاني؟"
ابتسمت خيرية و الابتسامة تخفي خلفها حزن دفين يتضاعف كل يوم عن الأخر منذ سنين
"بقالي 15 سنة عايشة لوحدي من وقت ما كل واحد فيهم سافر علي إيطاليا و مارجعوش، بقيت زي المقطوعة من شجرة و لا كأني شيلتهم في بطني تسع شهور و سهرت الليالي وربتهم و تعبت عليهم و كنت الأب و الأم من بعد أبوهم، بقي أخرهم معايا مكالمة كل فين و فين يعملوا انهم بيطمنوا عليا"
"بالتأكيد عندهم ظروف منعاهم أنهم يرجعوا هنا"
"ظروف إيه يا أميرة اللي تخليهم في بلد غريبة يقعدوا 15 سنة!!، و اعرف من الأغراب منهم اللي اتجوز واحدة قدي عشان ياخد الجنسية و لا التاني اللي مقضيها خمرة ونسوان، و لا التالت اللي ما يعرفوش أخواته هو راح فين و لا بيشتغل مع مين، كأنهم ملهمش أم شقيت و اشتغلت 25 سنة عاملة نظافة في مستشفي عشان أقدر أصرف عليهم و ما أحسسهمش أنهم أقل من حد"
اقتربت منها الأخرى و عانقتها بحنان
"ما تزعليش يا ماما خيرية، بإذن الله هيرجعولك بالسلامة و يجوا يملوا عليكي البيت"
"ولو حتي ماجوش، كفاية ربنا عوضني بيكي، كنت نفسي من زمان ربنا يرزقني ببنت، البنت بتبقي حبيبة أمها و القلب الحنين اللي بتميل عليه في عز حزنها، و الإيد اللي بتطبطب و تواسيها، بتهيقلي لو كان معايا بنت مكنتش هتبقي في حنيتك عليا و لا بتحبني زيك"
ابتسمت الأخرى و عقبت بسعادة
"ده أنا اللي ربنا بيحبني أنه رزقني بيكي، لولاكي كنت زماني مرمية في الشارع و يا عالم كان جرالي إيه، و أنا لا عارفة أنا أبقي مين و لا مين أهلي!"
❈-❈-❈
منذ أن غادرت المشفى وذهبت إلي منزل والدها القديم برفقة زوجة أخيها وصديقتها، قررت المكوث وعدم العودة إلي القصر بالرغم من محاولات عديدة من زوجها و التحايل لتعود إليه، لكنها تأبى العودة و مسامحته بتلك السهولة، يكفي من فرط حزنها تسبب لها بأن تم استئصال المرارة لديها.
كانت تتمدد علي الفراش بعد النوم طوال الليل، تقلبت علي جانبها الأيمن فشعرت بأنفاس دافئة تلمس بشرتها، شعرت بالخوف وأخذ قلبها يخفق بشدة وجلاً، فتحت عينيها رويداً رويداً و تردد بسم الله الرحمن الرحيم و بعض أدعية التحصين، و إذا تجده يتمدد جوارها وينظر إليها مبتسماً، كادت تصيح فكمم فاها
"أوعي تزعقي و لا تصرخي عشان غلط علي جرحك"
أزاحت يده من علي فمها ونهضت رويداً وتحاملت علي ألم الجرح لديها، تسأله بنفاذ صبر من بين أسنانها
"أنت إيه اللي جابك هنا؟"
نظر إليها بعينين الجرو البريء يخبرها بوداعة
"مش عارف أؤكل و لا أشرب و لا أنام و أنتي بعيدة عني"
رفعت كلا حاجبيها بتعجب ساخر
"لا والله؟!، تصدق صعبت عليا و الدمعة هتفر من عيني"
"بقي كدة يا ديجا؟!، بتتريقي عليا!، ده أنا عملت المستحيل عشان أصالح أخوكي و مراته علي بعض، و شيماء كتر خيرها خدت يوسف ابننا عندهم يومين عشان أجي استفرد بيكي قصدي أجي أقعد معاكي و أعرف أصالحك علي راحتنا"
"و أنا بقولهالك يا آدم للمرة المليون، أنا مش عايزة أتصالح لأن عديتلك قبل كدة و حذرتك و ماسمعتش كلامي لحد ما القدر جابني لحد عندك و خلاني شوفت بعيني و عرفت اللي مخبيه عليا، و بسبب أنك حرقت دمي و ما استحملتش شيلت المرارة، عايزني أسامحك عشان المرة الجاية تجيبلي جلطة و أموت و ترتاح مني!!"
نهض واقترب منها
"ألف بعد الشر عليكي، والله ندمان أشد الندم و مش طبعي و أنتي عارفة أن أفضل أتحايل علي اللي قدامي، بس عشان بحبك و مقدرش أعيش بعيد عنك فجيت لحد عندك و بقولك احكمي عليا بأي حاجة إلا البعد و كلمة طلقني دي، لأن أنا و لا هابعد و لا هاطلق، و هاتفضلي مراتي و حبيبتي لحد أخر يوم في عمري"
كانت ستضحك علي طريقته التي تخللها بعض الطفولية في تحديه، لكن تظاهرت بالجدية أمامه، لا تنكر أن إصراره البالغ علي طلب مسامحتها له و عدم تلبية طلب الانفصال ولم يكل و لا يمل بالرغم أن هذا نقيض طبعه الذي يمل سريعاً، بينما هذا أمراً يتوقف عليه حياته، فهي زوجته و حبيبته كما أخبرها، و القلب الذي يعيش به و من أجله.
قفزت داخل رأسها فكرة تجعله يفكر آلاف المرات قبل أن يرتكب خطأً في حقها
"عايزني أسامحك و ما ابعدش عنك؟"
اقترب نحوها أكثر فابتعدت إلي الوراء تنظر إليه بتحذير أن يظل مكانه
"بجد؟، قصدي يعني هتسامحيني و هانرجع زي الأول و أحسن؟"
"أنا فعلا هسامحك و هانرجع بس بشرط"
عقد ما بين حاجبيه وكاد يفقد صبره ويعط لغضبه إشارة الانطلاق لكنه تمكن من السيطرة علي نفسه، فهو علي مقربة من تحقيق ما كان يرجوه منذ أيام
"قولي شروطك يا قلب آدم"
ابتسامة نصر تتلألأ علي محياها وهي تخبره
"أولاً هاتعيش معايا هنا في بيت بابا الله يرحمه لمدة شهرين، قول أربعة لحد ما أقولك أنا زهقت و نرجع القصر، ثانياً أنا هنام في أوضتي و أنت شوفلك أي أوضة تانية نام فيها، معلش بقي أصل جرحي مطرح العملية مش بيخليني اعرف أنام علي راحتي و بفضل أتقلب كتير فعايزة أكون علي راحتي"
"مفيش ثالثاً بالمرة و لا لسه هاتفكري؟!"
أدركت السخرية في سؤاله و تعلم أن لو زادت من الضغط عليه فلا تلوم سوي حالها، لا تأمن غضبه الذي مثل الخيل الجامح دون لجام.
"لاء، هما شرطين مالهمش تالت، و عشان أكون منصفة معاك هاديلك مهلة يومين تفكر فيهم عـ....
قاطعها بجدية
"و أنا موافق"
يتبع