رواية غرام الذئاب الفصل الثالث بقلم ولاء رفعت
كقطرة ماءٍ أنتِ يتبعها غيث يهطل علي أرض فؤادي الذي تشقق من فرط الاشتياق، اسقيني من نهر عشقك ولا تتمهلي فاللوعة قد بلغت الآفاق.
صوت المفتاح يخترق قفل الباب كما يخترق صوت أنينها السكون الذي يعم في الإرجاء، هذا بسبب قبضة يده علي أناملها و لم يلاحظ أن يدها مصابة، و إذا به يفتح الباب ثم يدفعها إلي الداخل و شيطانه يهيمن عليه، يسألها بصوت جعلها ترتجف كما اهتزت النوافذ أثر إغلاقه للباب بعنف
"ممكن تفهميني ابن خالتك عايز إيه منك؟"
تضع أناملها علي الجرح عّلها تخفف الألم الداهم في يدها، توجست خيفة من تلك النظرة المخيفة التي يرمقها بها، ابتلعت لُعابها وافترقت شفتيها لتخبره
"ما أنت قولتها، ابن خالتي يعني طبيعي هايحضر فرحنا"
يقترب منها بُخطى يماثلها خطواتها حيث تبتعد إلي الوراء
"بلاش استعباط و وش البراءة اللي راسماه عليا ده، أنتي فاهمة أنا أقصد إيه"
كادت تتعثر لكن سرعان وجدت يدها مسند المقعد المخملي فجلست
"لو قصدك عشان بيسلم عليا، هو ما يقصدش حاجة، خلاص دلوقتي أعتقد إنه هايعتبرني زي أخته"
اقترب حتي أصبح أمامها مباشرة ثم دنا منها مستنداً بيديه علي مسندين المقعد
"نظراته ليكي مكنتش بتقول كده"
ألتصق ظهرها بالمسند الخلفي للمقعد تتحامي به
"و أنا أعمله إيه"
"ما تشوفيش وشه تاني نهائي، أي مناسبة عائلية عندكم هايكون هو فيها ممنوع تروحي، مفيش مرواح للنادي غير لما أكون أنا معاكي، مفهوم؟"
لم يتلق رداً فصاح في وجهها مكرراً سؤاله، هزت رأسها في التو ورددت
"حاضر، حاضر"
ابتعد عنها و لم يخف عن فطنتها الحالة النفسية التي تسيطر عليه، يبدو التوتر و القلق بل و الارتباك أيضاً، تلك الانفعالات يخفيها خلف عنفوان غضبه الذي تراه لأول مرة، لم تنكر أنه سبب لها الذعر، ظلت تراقبه في صمت وهو يجول أمامها ذهاباً و إياباً و كان يتمتم بكلمات غير مسموعة، نهضت علي الفور و أرادت الفرار من أمامه
"عن إذنك"
"إستني عندك"
توقفت ونظرت إليه باستفهام في انتظار معرفة ماذا يريد منها و ليته ما تفوه ببنت شفه
"أوعي خيالك يصورلك سبب غيرتي عليكي من رحيم يكون أن أنا بحبك وعاشقك مثلاً، ده طبع فيا لأني راجل دمي حامي و بغيّر علي أهل بيتي و اللي مني"
تسبب حديثه اللاذع في تصدع جدران قلبها، حاولت التظاهر بالقوة أمامه و لم تريه ضعفها أو السماح لهبوط دمعة واحدة علي وجنتها أمامه
"لاء اطمن، أنا مش غبية للدرجدي، أنا فاهمة و عارفة أنا إيه بالنسبة لك، بس حبيت أفكرك أن دوام الحال من المُحال"
أطلق زفرة وفي عينيه نظرة لم تستنتج منها بشيء فسألته
"في أي حاجة عايزة تقولها ليا تاني؟"
شعور قليل من الندم انتابه علي ما تفوه به من حديث، حك فروة رأسه بحرج، سألها و كأنه لم يكن كالثور الضاري منذ قليل
"جعانة؟"
تعجبت من سؤاله الذي لا محل له من هذا الحديث الفظ
"ما باكلش بالليل"
رفع يده مشيراً إليها نحو وجهتها بوجه من الجليد
"تمام اتفضلـ...
لم تدعه يكمل قوله وذهبت تلملم أذيال آلامها، و بمجرد أن دخلت أغلقت الباب و استندت خلفه بظهرها، وضعت كفها علي فمها تمنع شهقاتها و حديث والدتها يتردد في رأسها بضراوة
«"و أنا كمان كنت بحلم باليوم ده بس مع اللي يستاهلك و يقدرك، مع الوحيد اللي بيحبك و يخليكي ملكة فوق راسه، أنتي أول بخته و كذلك هو، مش واحد أرمل عايش علي أطلال المرحومة مراته اللي سابتله بنت محتاجة رعاية و بدل ما يجيبلها ناني تهتم بيها راح يتجوز و يجيب لها مرات أب"
"أنا مش جاية أوجع قلبك، أنا جاية أحذرك لأخر مرة و إحنا لسه علي البر، فاكرة أن ما بحبكيش برغم لو قعدتي تفكري هتلاقيني خايفة عليكي، كلامي لو وجعك النهاردة، أحب أقولك جوازك من ياسين هيكون وجع هايقعد معاكي لأخر العمر"
"اللي أنتي فيه ما اسمهوش حب، اسمه مرض، أنتي مهوسة و مريضة بلعنة اسمه ياسين، و بكرة هتتمني أن الزمن يرجع بيكي للحظة اللي إحنا فيها دلوقتي و تتراجعي، يا خسارة يا رودينا"»
زادت تلك العبارات وجعاً فتاكاً فوق آلامها التي بلغت الحلقوم، لم تتحمل فأجهشت في البكاء كانت دموعاً كالسيل العارم.
و بالعودة إلي ياسين، كان قد ذهب إلي غرفة مجاورة يغلق الباب خلفه و يلتقط أنفاسه كالذي انتهي لتوه من سباق مارثون، انتظمت انفاسه ثم عبس وكأنه تذكر أمراً ما، أخرج زجاجة صغيرة في حجم كف اليد من بين طيات الجيب الداخلي لسترته، رفعها أمام عينيه، قد أعطاه إياه شقيقه يونس بعيداً عن الأنظار أثناء حفل الزفاف و أخبره
«مشهد سابق»
"أنا حاسس بيك و عارف اللي بتمر بيه من ضغط نفسي، عشان كدة جيبتلك حاجة هتخليك تنسي أنت مين و تعيش ليلة و لا ألف ليلة و ليلة كأنك داخل دنيا أول مرة في حياتك"
اعطاه شقيقه الزجاجة الصغيرة فأخذ ياسين يحملق بها ثم حدق إلي شقيقه بامتعاض
"نبيذ؟!"
ابتسامة من الأذن إلي الأخرى تجلت علي وجه شقيقه ذو العقل الهارب
"و مش أي نبيذ، ده متعتق من أيام جدك البحيري، الله يرحمك يا جدي، حاجة كدة مفعولها زي السحر، بس خد بالك أخرك بوقين تلاتة منه و ما تكترش"
"أنت عبيط يا يونس؟!، أنا أصلاً قررت ماشربش الهباب ده تاني"
لكزه شقيقه في كتفه
"أنت هاتعيش عليا الدور و لا إيه، بأمارة أوضتك اللي كانت مليانة أزايز فودكا و سجاير"
كان يمر أحد ما من جوارهما فخبأ ياسين الزجاجة سريعاً في الجيب الداخلي لسترة حُلته السوداء، فاستطرد يونس حديثه
"اسمع كلامي و هاتدعيلي، دي الليلة ليلتك يا عريس، اللي أنت داخل عليه محتاج عامل نفسي و أنت يا حبيب أخوك عندك اكتئاب و عايش و مش عايش علي رأي الهضبة، المفروض كنا عالجناك في مصحة"
رمقه الأخر بغضب فحمحم يونس
"بهزر معاك، ده أنت سيد العاقلين، بص عشان ما نلفتش الأنظار أكتر من كدة، بوقين من البتاعة دي و هتبقي ملك زمانك و هتدعيلي"
«عودة إلي الوقت الحالي»
قام بفك ربطة العنق و ألقاها ثم خلع سترته وألقاها أيضاً و كما فعل بهما فعل أيضاً بجسده، استلقي علي ظهره و أخذ يتأمل الزجاجة في يده في محاولة عدم الانغمار في براثن الذكريات لكي لا يصبح أسير الألم لا سيما عندما تذكر تحذير والدته و شعوره بالندم من أسلوبه الفظ و الحاد منذ قليل مع زوجته القابعة في الغرفة الأخرى.
نهض بجذعه و شقت وجهه ابتسامة يشوبها خليط من السخرية والشجن، فتح الزجاجة و تجرع علي دفعة واحدة من هذا الشراب المُحرم.
❈-❈-❈
ليل أسود ونسمات هواء شديدة البرودة وصوت طائر البومة المختبئة في الأشجار التي تحيط بالقلعة ذات المظهر المظلم و المخيف،
تجلس الشقراء علي حافة النافذة تنظر نحو الخارج بملل وضجر، تنظر إلي شاشة هاتفها لتعيد الاتصال رقم المائة فتتلقي رسالة صوتية مسجلة بأن الرقم غير متاح في الوقت الحالي، فهكذا كان الوضع منذ يومين، لا تعلم عنه شيء كالعادة، يسافر و يذهب إلي أشغاله و أعماله الظاهر منها و الباطن و لم يخبرها تفاصيل ما يقوم به، يتجاهلها عمداً أو ربما يريد معرفة مشاعرها الحقيقية اتجاهه و السبب خلف تهربها كلما يطلبها للزواج، حمقاء فهناك مئات يتمنين بالتقرب فقط من فلاديمير رومانوف أكبر زعماء المافيا الروسية!
انتفخت أوداجها و لم تستطع عليه صبراً أكثر من ذلك، اهتز هاتفها ليعلن عن رسالة واردة فحواها كالتالي
«القيصر يسهر الآن في ملهي الدائرة الحمراء»
ابتسامة عارمة ظهرت منها أسنانها يتبعها قولاً بل وعيداً وتنظر إلي صورة تحتفظ بها داخل ملف يُفتح برقم سري علي الهاتف
"مهما مرت أعوام وأصبحت عقود لم أستسلم للوصول إليك و ستصبح لي أنا فقط"
ذهبت إلي الخزانة و أخذت ثوباً لنقل بالأحرى شبه ثوب!
بعد أن أعدت نفسها للذهاب ارتدت معطف من الفرو الوثير لتخبأ أسفله ما ترتديه من ثوب أسود عاري وذلك ليس خجلاً من رجال فلاد أن يرونها بهذا المظهر المنحل بل تخشي من الوشاية بها إليه، فهي لا تريد إثارة غضبه ريثما يكمل مخططها الشيطاني!
بعد مرور وقت، كانت داخل سيارة ذات دفع رباعي، يرافقها حارس شخصي هكذا شرط فلاد للسماح إليها بالتنزه أو الخروج بعد استئذانه بالطبع.
"توقف هنا"
ألقت أمرها علي السائق، ليست حمقاء أن تجعله يتوقف أمام الملهي حتي لا يخبر سيده فأمرته بالتوقف أمام مطعم قريب من مبتغاها.
ألتفت إليها الحارس الشخصي
"سيدتي، المطعم هنا ليس آمن، من الممكن أن نذهب إلي مطعم آخر من المطاعم التي يملكها الزعيم"
حدقت إليه شزراً
"ليس من شأنك ما أريده يا هذا، فأنا كفيلة بحماية نفسي"
"إذن لن أتركك بمفردك في الداخل"
أخبرها بهدوء قاتل أثار حنقها، أخذت تتمتم بغيظ بصوت خافت
"تباً لك فلاد و لرجالك"
قامت بخداع الحارس حيث ولجت داخل المطعم برفقته و جلست و طلبت الطعام ثم نهضت وأخبرته أنها سوف تذهب إلي المرحاض و عليه الانتظار جوار الطاولة ريثما تعود، فعلت ما سبق ثم خرجت من باب آخر يؤدي إلي الشارع الخلفي و طريق مختصر إلي الملهى كما يظهر لها علي خريطة الموقع الجغرافي للمنطقة.
وصلت إلي بوابة صغيرة يقف في الخارج رجلان ذوي بنية جسدية ضخمة، و لافتة ضوئية باسم الملهى، أظهرت لأحدهما شاشة الهاتف تريه دعوة خاصة من صاحب هذا الملهى، ابتسم لها هذا الحارس العابس
"تفضلي سيدتي، سيد روجرز في انتظارك"
أومأت إليه بابتسامة يكللها إغراء سافر
"شكراً لك أيها الضخم"
و ولجت إلي الداخل، سارت في رواق ذو إضاءة خافته و يتبعها رجل يعمل هنا، أعطي أمر إلي حارس البوابة الداخلية و ما أن قام بفتحها صدح صوت الموسيقي الصاخبة، روائح خمر و أدخنة لفائف التبغ الفاخر منها و المحلي، أصوات ضحكات أنثوية يتبعها تهليل من هؤلاء الشباب و الرجال السكارى
"من هنا سيدتي، تفضلي"
أشار إليها الرجل نحو رواق شبه مظلم، وصل كليهما أمام باب غرفة صاحب الملهى والذي أن رآها نهض وفتح ذراعيه بترحاب
"أوه سيلينا، لقد اشتقت إليكِ كثيراً يا امرأة"
اقتربت منه و تبادلا العناق
"روجرز، كيف حالك يا رجل؟"
"كما ترين أيتها الجميلة الشقراء، كنت صاحب حانة في أحد الحواري التي يقبلون عليها المتسكعون و المجرمون، و ها أنا اليوم أصبحت صاحب أكبر سلسلة ملاهي ليلية في روسيا و قريباً سأفتتح سلسلة في إيطاليا"
"لا داعي أن تخبرني فأنا أعلم بكل هذا و أكثر"
"يا لي من أحمق، قد نسيت أنك الآن زوجة الزعيم فلاديمير"
ابتسامة صفراء تخفي خلفها غيظ جعل دمائها تغلي كالمُهل
"لم أصبح زوجته بعد، فنحن في مرحلة التعارف"
أطلق الآخر ضحكة و أخبرها
"أنتما ليس بحاجة إلي عقد زواج فالجميع يعلم أنك زوجته، لكن مهلاً، هل يعلم بوجودك هنا؟"
"بالطبع لا، كيف يعلم ذلك و أنا أخبرتك من قبل مجيئي هنا أمر سري"
"كنت أظن سبب مجيئك هنا هو اشتياقك إلي أيام السهر و الرقص كما كنتِ تفعلين في الحانة"
خلعت المعطف ذو الفراء و رأت كيف ينظر إليها الأخر، ابتلع ريقه فهو يرى أيقونة الإغراء أمامه، جلست أعلي المكتب الزجاجي عاقدة ذراعيها أمام صدرها تخبره بكل ثقة
"لا داع أن تذكرني بتلك الأيام، كنت طائشة و حمقاء، أنا هنا لأمر هام"
دنا منها وسألها بأنفاس ثقيلة و عينيه لا تبرح عن ما بين ذراعيها
"ما هو؟"
حلت ساعديها لإحاطة عنقه بيديها ذات الملمس الحريري
"أريد مقابلة القيصر"
جحظت عيناه و ابتعد عنها
"مَنْ؟، هل تمزحين أم ماذا؟، لا تعلمين أن القيصر المنافس و العدو الأول لزوجك؟!، و إذا علم بهذا الأمر ستكون كارثة فوق رأسي قبل رأسك"
زفرت بغضب
"لا تقل زوجك مرة أخرى، و أنا أدرك جيداً ما أريده، لا تقلق لن يعلم بهذا الأمر"
"كفي هراء سيلينا، زوجك لن يخفي عليه شيئاً و أنتِ أكثر الناس معرفة بفلاد رومانوف و إلي أي مدي تصل نفوذه و سطوته، و أنا ليس علي استعداد أن أصبح علي القائمة السوداء لديه"
لمعت عيناها بنظرة تحدي و إصرار غير آبه بجميع تحذيرات روجرز لها
"عزيزي روجرز، شئت أم أبيت، سألتقي بالقيصر"
تناولت معطفها و حقيبة يدها ثم غادرت تاركة إياه يضرب كفً في الأخر غير مكترثة بأي أمر لاحق.
أخذ روجرز يبحث بعينيه عن هاتفه حتي وجده فامسك به و قام بأجراء اتصالا هاماً وهو يتمتم
"اللعنة عليكِ أيتها الحية، لابد أن أخلي مسئوليتي و أحافظ علي ما بنيته لسنوات"
و علي نفس التوقيت في بلدٍ آخر، يجلس داخل سيارته السوداء، يتابع عمله علي الحاسوب ويتابع أيضاً الاتصال الوارد إليه للتو
"ماذا هناك ألبير؟"
"سيدي لقد كنت مرافقاً للسيدة سيلينا إلي مطعم يقع في شمال موسكو"
أغلق الحاسوب في الحال وصاح سائلاً إياه
"ماذا؟، أعد ما قلته للتو مرة أخرى"
"سيدي، السيدة سيلينا قالت لي أنها قد أخبرتك بذهابها إلي المطعم"
"هل أنت أحمق أم تَدعي ذلك؟!، ماذا عن تحذيراتي لكم؟!، أمرتكم ممنوع أن تخطو قدمها خارج بوابة القلعة و ألا سأحاسبكم جميعاً"
"أعتذر بشدة سيدي"
"ماذا سأفعل باعتذارك أيها الأحمق، أرسل لي الموقع الآن فأنا قادم غضون نصف ساعة"
ابتلع الحارس ريقه خوفاً من سيده لذا أخبره بتردد
"سـ سيدي، هناك أمر هام أريد أن أخبرك به"
انتبه فلاد إلي انتباه مكالمة علي الانتظار، ألقي نظرة حتي علم هوية المتصل فأخبر الحارس
"افعل ما أمرتك به و لا تتحرك من مكانك"
لم يجب علي المتصل الأخر بعد أن تكرر الاتصال حتي صدح صوت رسالة نصية فحواها جعل دماءه تفور كالماء المغلي داخل المراجل
«زوجتك لدي في الملهي تريد مقابلة القيصر»
برزت عروقه و صوت اصطكاك أسنانه من الغضب يسمعه السائق الذي اختطف نظرة في المرآة وجد سيده في حالة قد اصابته بالرعب، كلما رآه في تلك الحالة يعلم أن الأمر لن يسلم من إراقة الدماء.
صوت رسالة أخرى من الحارس بها تفاصيل الموقع، كانت قبضته كادت تحطم هاتفه!!
❈-❈-❈
ما زالت تمكث في الغرفة وانتهت من وصلة بكاء تلاها حالة تبلد، تقف أمام المرآة وتنظر إلي هيئتها، عروس بائسة بل ومريضة بحُب هذا القاسي الذي لا يكترث إلي أي شيء تقدمه إليه أو مشاعرها حياله، نظرت إلي نفسها بازدراء و لم تتحمل رؤية ثوب الزفاف عليها أكثر من ذلك فبدأت بفك التاج ثم الوشاح المتشابك به ألقتهم علي الأرض وشرعت بخلع ثوبها.
وفي الغرفة المجاورة، أصبح في حالة سعادة زائفة، يضحك تارة ثم يصمت و يعيد الكرة مرة أخري، يبدو أنه قد بدأ مفعول الشراب ودخل في حالة ثمل، يشعر بحرارة اضرمت في جسده نابعة من مشاعر أخرى تراوضه كالرغبة والإثارة.
بينما العروس البائسة أغلقت صنبور الاستحمام و تناولت المنشفة القطنية، ارتدتها حول جسدها ووقفت أمام مرآة الحوض، تتحدث إلي ذاتها
"أنا مش هاسكت له تاني ولازم يفهم إن أنا بقيت مراته ولازم يحترمني و يحترم مشاعري"
تناولت منشفة صغيرة و خرجت من الحمام تجفف شعرها المبتل وإذا بها تبعد المنشفة عن وجهها لتجده يجلس علي طرف الفراش ويدخن لفافة تبغ، أزرار قميصه مفتوحة تكشف لها عن صدره العاري، يتأمل هيئتها المثيرة عن كثب وينفث الدخان من أنفه و فمه، شعرت بالخجل من نظراته وقد نست قرارها الذي اتخذته منذ قليل!
حمحمت وأخبرته دون أن تنظر إليه
"الحمام جاهز، تقدر.....
جذبها من يدها ثم ألقي اللفافة المشتعلة علي المنضدة المجاورة، رفع وجهها لتنظر إليه
"آسف"
أصابتها الدهشة، هل يعتذر لها حقاً؟!
أحاط خصرها بين يديه، تشعر بأنفاسه ذات رائحة دخان التبغ وتخالطه رائحة أخرى لم تعلم ماهيتها
"لسة زعلانة مني؟"
غرت فاها لم تصدق ما يفعله و يقوله لها، و علي الفور قد محت من ذاكرتها كل من أفعال و كلمات جارحة صدرت منه، سرعان و أذاب قلبها بين يديه كما يشعر جسدها بالذوبان من قربه المهلك و نظراته التي جعلتها تنسي ذاتها.
"ما أقدرش أزعل منك أبداً، أنا بحبـ....
وضع طرف سبابته علي شفتيها فأصابها بقشعريرة، يخبرها بنبرة اشعلت نيران العشق بها
"كفاية كلام، و تعالي ننسي كل حاجة، أنا محتاجلك"
اختتم كلماته بدفن وجهه بين كتفها و عنقها، أخذ يقبل موضع العرق النابض لديها، اغمضت عينيها واذعنت إلي كلماته واستسلمت إلي ما يفعله من لمسات و يتبعها همسات بكلمات عزفت علي أوتار قلبها طرباً، همهمت بترديد اسمه حتي ارتفعت قبلاته ووصلت إلي شفتيها، ابتعد برأسه و نظر إليها غارقاً في بحر الرغبة وصورة مشوشة ضربت ذاكرته وكأنه يراها علي الحقيقة، همس داخل عقله
"ياسمين؟!"
اختفت الصورة كمشهد انقطع إرساله، أطلق عنان خياله وكأنها هي، ألتقم شفتيها بقبلة مباغتة، تأوهت بألم وحاولت التملص من تلك القبلة الغاشمة
"ياسين ممكن بس..
لم يمهلها أن تكمل طلبها، فقام بتقبيلها وحملها من خصرها حتي وصل إلي المضجع، أنزلها و لم يفصل قبلته، كانت تدفعه في صدره بقوة واهنة لتستطيع التنفس، ابتعد ليلتقط أنفاسه وخلع قميصه وبدأ في خلع بنطاله، تراجعت بالتزحزح إلي الوراء بعد أن أدركت حالة الثمل التي بها، رفعت يدها كإشارة للتوقف عن ما سيفعله
"ياسين، ما ينفعش نكمل و أنت سكران، أنا مش عايزة كد.....
جذبها من قدميها ودنا منها فأصبحت محاطة بجسده ويده تمسك بطرف المنشفة التي ترتديها
"بس أنا عايز"
"ياسين، ياسين، يا....
ضاع توسلها إليه داخل جوفه و لم يكترث، نيران الرغبة في جسده قد وصلت إلي ذروتها مثل لفافة التبغ التي مازالت مشتعلة، تتوهج نيرانها وازداد الدخان و احترقت اللفافة و صوت صرخة في الخلفية فأصبحت زوجته شرعاً وقانوناً، و ما تبقي من لفافة التبغ المحترقة سوي الرماد!
❈-❈-❈
تتمايل هذه الشقراء علي الموسيقي و في يدها كأس من النبيذ الأحمر، تضع ساق فوق أخرى و عينيها كالصقر نحو القيصر الجالس وسط حاشيته في الجهة المقابلة، و بالفعل أصابت هدفها، لاحظ نظراتها فمال إلي مساعده الأقرع
"من تلك الشقراء المثيرة؟"
"دعك منها سيدي، فهذه تخص آل رومانوف، تدعي سيلينا، كانت ترافق نيكلاوس و الآن أصبحت رفيقة شقيقه فلاد و سوف يتزوجا عما قريب"
"قلت لي رفيقة فلاد، علي الرحب و السعة"
رفع كأسه كإشارة ترحيبية لها، بادلته الترحاب ونزلت من فوق الكرسي، تتمايل بخصرها المنحوت وثوبها الذي يكشف عن ساقيها و ذراعيها و يبرز أعلي مفاتنها، وقفت أمام الطاولة تبتسم بدلال سافر
"هل لي من مكان جوارك يا قيصر؟"
"بالطبع أيتها الشقراء المثيرة"
نظر إلي رجاله من حوله فنهضوا جميعاً وابتعدوا علي مسافة قريبة، اقتربت و جلست جواره
"سيلينا، هذا هو اسمي"
ابتسم بدهاء وأخبرها بمكر
"و من لا يعلم عروس آل رومانوف؟!"
جزت علي أسنانها وحاولت ألا تظهر غضبها و وارته خلف ابتسامة حية لعوب
"مجرد ترهات تقال هنا و هناك، أنا مساعدة الزعيم فقط، عرض علىّ الزواج بالفعل لكنني لم أوافق بعد"
أثار حديثها فضوله و أراد أن يعلم المزيد
"عفواً، أريد إيضاح أكثر من ذلك"
تناولت زجاجة خمر من علي الطاولة و أخذت كأسه الذي اوشك علي الانتهاء وقامت بسكب القليل، تناولت رشفة و تركت طبعة حمرة شفتيها واعطته إليه وأشارت بنظراتها نحو الكأس ليشرب من خلفها، اتسعت ابتسامته و رفع الكأس فرفعت كأسها هي أيضاً، ارتطم الكأسين وقال
"نخبك سيلينا"
"نخبك قيصر"
انتهت من الشراب و تركت الكأس لتردف
"أنا أمكث لدي فلاد لأنني أعمل معه و كنت اعمل مع شقيقه سابقاً و والدي كان يعمل لديهم، فعلاقتي بالزعيم مجرد عمل ورفاق ليس أكثر"
"لقد فهمت إذن، لكن هناك سؤال أريد أن أعلم إجابته، هل يعلم فلاد أنك هنا و تجلسين معي، فأنا عدوه اللدود"
اخفت توترها خلف ابتسامة
"هذا ما كنت سأخبرك إياه، أرجو أن مقابلتنا تكون سراً بيننا لا يعلم بها أحد، فأنا أريد منك خدمة و سأعطيك المقابل الذي تريده"
"و ما هي الخدمة؟"
و خارج الملهى علي بُعد مسافة أمتار، تتقدم السيارة نحو العنوان المنشود
"سيدي لقد اقتربنا"
لاحظ وجود بعض من رجال القيصر ينتظرون خارج الملهى فعقب
"اللعنة سيلينا، كنت أؤجل أمر هذا الوغد لاحقاً"
العودة إلي القيصر الذي انتهي من الاستماع لطلبها، سألته و تخشي رفضه
"ماذا قلت؟"
"بالطبع لن أرفض لك طلباً لكن تعلمين في عالمنا كل شيء و له مقابل، و أنا لا أريد مقابل واحد بل اثنان"
و أشار لها بأصبعيه السبابة و الوسطي
"أخبرني إياهما و أعدك لم نختلف"
"المقابل الأول أريد قضاء ليلة معك"
"و الثاني؟"
" و كما أخبرتني منذ قليل كونك مساعدة فلاد، فأنا أريد صفقة الأسلحة التي سيستلمها في إيطاليا"
لم يكن لديها فرصة للرفض فهدفها هو الأهم مهما كان الثمن الذي ستدفعه حتي لو اضطر الأمر إلي خيانة فلاد!
"أوافق"
ابتسم بانتصار و وجد أحد رجاله يدنو منه و يهمس إليه بأمر، فأسرع يخبر سيلينا
"انهضِ وارحلي من هنا علي الفور، فلاد و رجاله في الخارج"
انسحبت الدماء من وجهها، نهضت مسرعة لتختبأ قبل أن يمسك بها فلاد وهي تجلس مع عدوه، أدركت أن روجرز قد أخبره
"كان روجرز اللعين لا يمزح إذاً"
كان بالفعل قد ولج فلاد و رجاله داخل الملهى و كان في استقباله روجرز
"مرحب بك يا زعيم"
كان غاضباً حقاً و عندما يصل إلي تلك الحالة فلا يرى أمامه و يريد حرق الأخضر و اليابس
"أين هم؟"
"يا للمفاجأة السعيدة، الزعيم بذاته هنا!"
كان وجه القيصر مثير لحنق فلاد مما دفعه إلي تسديد لكمة قوية في أنفه جعلته وقع علي الأرض طريحاً
كاد يشتبك رجال القيصر مع فلاد و رجاله رفع يده و أمرهم
"لا يتدخل أحد بيني و بين الزعيم"
نهض وأخذ يمسح دماء أنفه بالمحرمة، حدق فلاد روجرز بنظرة قاتلة، أشار له الأخر بعينيه نحو الرواق المؤدي إلي المرحاض، فأمر فلاد رجاله
"انتظروا هنا"
و اتجه مسرعاً نحو الرواق، كانت تختبئ داخل المرحاض وارتدت ثياب عاملة النظافة، تدفع عربة المنظفات إلي الخارج بعد أن وضعت علي رأسها قبعة من الصوف تخفي أسفلها شعرها الأشقر، لمحت طيف فلاد الذي يقترب من المرحاض، أسرعت خطواتها دون مبالغة حتي لا تلفت انتباهه إليها.
ولج داخل الحمام فوجد شقراء موليه إليه ظهرها، جذبها من ذراعها
"ماذا تفعلين هنا أيتها الـ....
صرخت الفتاة ووجدها ليست هي، تركها معتذراً
"معذرة"
أخذ يفتح كل باب مرحاض فيجده شاغراً، غادر و نظر يميناً ويساراً لم ير سوي عاملة النظافة في نهاية الرواق، ظل يتأملها حتي اختفت عن الأنظار
توقفت أمام الغرفة الخاصة بعمال النظافة، ولجت و تركت العربة جانباً تتنفس الصعداء، عليها أن تعود إلي المطعم قبل أن يجدها و يفتك بها.
بدلت الثياب و ارتدت ثوبها و المعطف، امسكت بحقيبة يدها واستطاعت الهروب من الباب الخاص بالعمال وذلك بمساعدة أحد رجال القيصر، و في غضون دقائق كانت داخل المطعم، ولجت من الباب الخلفي لتجد المطعم خالي من الزبائن و هدوء يسبق العاصفة.
"هل كان الأمر صعباً لتبقين كل هذا الوقت داخل المرحاض؟!"
ألتفت خلفها لتجده يقف و علي شفتيه ابتسامة دبت الرعب في قلبها، فهو نقيض شقيقه حليم و صبور للغاية و إذا غضب فلن يرحمها، و تلك الابتسامة غير مبشرة علي الإطلاق.
"قمت بالاتصال بك أكثر من مائة مرة و أجد هاتفك غير متاح و لا أعلم عنك شيء، أردت التنزه قليلاً بدلاً من الكلل و الملل داخل القلعة الباردة"
لاحظت نظراته إلي أسفل حيث يمعن النظر إلي حذائها الأحمر المخملي ذو الكعب المرتفع
"ماذا كنتِ تفعلين مع القيصر داخل الملهى"
شهقت وأجابت بإنكار
"ما هذا الهراء، ملهى؟!، و من قيصر ذاك؟"
جذبها من شعرها حتي كادت تقتلع خصلاتها في يده
"أكره الكذب و خبث ومكر العاهرات ذلك، هيا أجيبِ"
"ما زالتِ تستمرين في الكذب، أنتِ من أردتِ ذلك فلتتحملي النتائج"
جذبها عنوة تحت توسلاتها إليه بأن يترك ذراعها، وصل بها إلي سيارته و دفعها إلي الداخل، وجدت أن البكاء خير وسيلة لاستعطاف قلبه، لا تدرك البكاء و العويل يضرمان نيران غضبه أكثر.
"اصمتِ"
صاح بغضب جامح مع دفعة من يده لها جعل رأسها يرتطم في زجاج النافذة ففقدت وعيها في الحال.
أصاب قلبه الذعر نحوها، أمسك برأسها وأخذ يربت علي وجهها
"سيلينا، سيلينا، كفي تمثيلاً"
تناول زجاجة المياه وقام بسكبها علي رأسها فشهقت كالعائد من الموت، فتحت عينيها رويداً رويداً لترى نظرة القلق و الخوف عليها في عينيه، بصوت خافت سألته
"ماذا حدث؟"
أطلق زفرة تنم عن الراحة التي شعر بها بعد أن اطمئن عليها و عاد الوجه الغاضب مرة أخرى
"لن أعيد سؤالي مرة أخرى، ماذا بينك و بين القيصر ليجعلك تهربين من الحارس و تذهبين إلي ملهي روجرز؟ و هناك السؤال الأول لماذا خرجتي من دون إذني"
هنا استخدمت ذكائها لتتجنب عقابه
"أنت لم تهتم بي مثل قبل وفوق ذلك تسافر بالثلاثة أيام و لم تخبرني عنك شيئاً و تضع رقمي علي قائمة الحظر لديك لكي لا أزعجك، لماذا تفعل معي ذلك؟"
عقد ما بين حاجبيه و داخله يشعر بالانتصار ها هو قد أصاب هدفه
"ألم تسألي نفسك أولاً لماذا أفعل معك ذلك؟"
"كل هذا بسبب تأجيلي لموعد الزفاف"
"و أريد تفسيرك لهذا التأجيل الغير مبرر"
"و أنا أخبرتك شرط زواجي منك أن تأخذ بثأر شقيقك، و الثأر ليس بالتخلص بمن قتله بل تقضي علي من يحبهم، عائلته"
"و أنا قد سألتك حينها لماذا تُردين ثأر شقيقي بالرغم من ما فعله بك؟، ما هو الدافع الحقيقي لديك؟"
شعرت بالتوتر والخوف من نظراته الحادة، ابتلعت ريقها ثم أخبرته كذباً
"لأن قاتل شقيقك هو السبب في إفساد علاقتي بكلاوس، كان يريد مني أن أرافقه ورفضت، حينها أخبر شقيقك أنني من أريد التقرب منه و لا أعلم بماذا أخبره أيضاً و جعل كلاوس ينتقم مني أشر الانتقام"
هز رأسه برفض معقباً
"لم اقتنع، هناك حلقة بل حلقات مفقودة، هيا سيلينا أخبريني بالحقيقة كاملة و ألا سأجعلك تندمين كثيراً إذا علمتها بنفسي"
نظرت إلي الجهة الأخرى تبتعد عن النظر إليه مباشرة لكي لا يكشف كذبها
"هذا كل ما لدي، و إن لم تصدقني دعك مني واتركني أذهب"
لم يعقب و أخذ ينظر إليها في صمت وصوت داخله يردد في رأسه
«عشقك لعنة جنت علي قلبي وروحي، كنتِ تظنين لا أعلم بما تخفيه داخلك، لكن أنا أعلم عنك ما لا تعلميه عن ذاتك حبيبتي»
انتبهت إلي صمته فألتفت إليه
"ما سبب صمتك هذا؟"
تنهد وأخبرها
"لا شيء سيلينا، لا شيء"
و نظر أمامه و يلاحظ نظراتها إليه و مدي التوتر و القلق المسيطران عليها، يبدو هذه الحمقاء لا تعلم مَنْ هو فلاديمير جيداً و كم هو يتميز بدهاء و مكر لم يضاهيه فيه أحد من أقوي و أعتى الرجال في عالمهم المظلم ذاك و إذا لم يكن كذلك فما كان قد وصل لمكانته الحالية.
وصل إلي قلعته الشامخة و الحراس منتشرون في كل مكان، نزلت من السيارة و هو خلفها
"اذهبي أنتِ و سألحق بك ريثما انتهي من شيء سأفعله"
ابتسمت بدلال واقتربت منه، وضعت يديها علي كتفيه لتخبره بنبرة لعوب
"سأنتظرك في غرفتي لأرحب بعودتك"
اقتربت أكثر و همست جوار أذنه
"لا تتأخر فأنا أشتاق إليك كثيراً يا زوجي المستقبلي"
تركت قبلة علي وجنته ثم ذهبت وتغمز بعينها، ابتسم من فعلتها و هناك سبب آخر خلف ابتسامته تلك؟!
أجري أتصالاً هاتفياً
"روجرز، أرسل لي حديثهما الذي سجلته"
"و ماذا عن القيصر، إذا علم بهذا الأمر سُيقضي علي"
"لا تقلق فأنت في حمايتي و لن يقدر هو و أمثاله علي الاقتراب منك"
"أمرك يا زعيم، لقد أرسلته لك الآن"
نظر في شاشة هاتفه ووجد رسالة صوتية بالفعل قد أُرسلت إليه، أنهي المكالمة ووضع الهاتف علي أذنه ليستمع هو فقط و عينيه نحو النافذة حيث تقف حبيبته الشقراء و تلوح له بيدها.
❈-❈-❈
إنها السابعة صباحاً كما يظهر في ساعة هاتفها، ترتشف قهوتها كما هي عادتها كل صباح، تتأمل أزهارها من شرفة الغرفة مع الاستماع إلي صوت فيروز
«شايف البحر شو كبير، كبر البحر بحبك، شايف السما شو بعيدة......»
أخذت نفساً عميقاً بمتعة لا تشعر بها سوي علي أرض الكنانة نقيض الأجواء الباردة و الغريبة في البلاد التي قامت بزياراتها مع زوجها الذي خرج للتو إلي الشرفة ووقف خلفها يعانقها
"وردتي الجميلة صاحية بدري أوي كدة ليه؟"
تركت القدح من يدها وألتفت إليه
"صحيت عشان استمتع بأحسن وأحلي جو وريحة نسيم مش هتلاقي زيها غير في بلدنا"
ابتسم و عقب
"و ياسلام علي فنجان القهوة مع صوت فيروز اللي خلوكي تقومي من حضن جوزك حبيبك و تسيبيه لوحده نايم، بقي كدة يا چيچي بيدو حبيبك هان عليكي؟!"
ضحكت من أسلوب حديثه الفكاهي المازح
"عمرك ما تهون علىّ، بس كانت وحشاني اللحظات دي أوي كنت مفتقداها الشهور اللي فاتت"
"لاء أنا كدة أغير بقي، مفيش حد يوحشك غيري أنا فاهمة يا هانم و لا لاء"
أخذت يده بين كفيها وأخذت تربت علي كفه
"عابد أنت هدية ربنا بعتها ليا بعد سنين صبر شوفت فيها كتير، أنت حب حياتي الوحيد اللي كنت بدعي ربنا ديماً أننا نكون لبعض، أي نعم أتحقق في وقت متأخر و بعد ما اتسرقت أجمل سنين عمرنا و بقينا جد و جدة، بس ده ما يمنعش أن أنا فرحانة من كل قلبي و بستمتع بكل لحظة وأنت معايا"
قام بتقبيل جبهتها ثم قبل كلا يديها
"ربنا يخليكي ليا يا حبيبتي، و ربنا يبارك في اللي باقي من عمرنا وأفضل أسعدك و نعوض كل اللي فاتنا"
لاحظ نظراتها نحو الفراغ، يشغلها أمر اظهر الحزن في عينيها فجأة
"مالك يا چيهان؟، سرحتي فجأة و شكلك متضايق و حزين"
أطلقت زفرة عميقة وأفاضت عما يقلقها
"قلقانة علي الأولاد أوي يا عابد، حبيت أعملهم رجوعنا مفاجأة لاقتهم هم اللي فاجئوني، آدم و خديجة متخانقين و طالبة الطلاق، ياسين أتجوز رودينا عشان ينسي بيها وجعه علي فراق مراته و كده هيظلم التانية معاه، حتي يوسف ابني الدكتور اللي بقول عليه عاقل عو ومراته شكل ما بينهم مشاكل معرفش أي هي بس قلبي بيقولي في مصايب هاتحصل و ربنا يستر"
"ليه التشاؤوم ده يا حبيبتي، وارد جداً يحصل مشاكل ما بين أي زوجين، و هما ماشاء الله كبار و عندهم أولاد و فاهمين يعني إيه جواز و مسئولية، سيبيهم يحلوا مشاكلهم بنفسهم و لو لا قدر الله الأمر كبر وقتها هانتدخل أنا وأنتي عشان نحلها"
ابتسمت وارتمت علي صدره
"آسفة يا عابد، شغلتك بمشاكل ولادي و نكدت عليك و أنت عمال تقولي كلام حلو و رومانسي"
أبعد رأسها عن صدره وأحاط وجهها بين يديه
"أنا هازعل بجد لو كررتي كلمة ولادك دي، اسمهم ولادنا، و لا أنتي بتعتبريني غريب بالنسب لهم؟!"
"أبداً والله يا حبيبي، أنت في مقام باباهم وربنا الشاهد طول السنين اللي فاتت من مواقف و مشكلات بتحصل معاهم كنت أنت أول واحد بتقف جنبهم"
ابتسم بحب مربتاً علي كتفها
"ما تقلقيش يا قلب عابد، أنا هاخدك و نروح نزور كل واحد فيهم يوم و نطمن عليهم"
"بحبك أوي يا عابد"
حدق في عينيها بمكر مبتسماً
"و أنا مش بحبك، ده أنا بعشقك و بعشق نفسك و روحك و نبضك و كل حاجة فيكي، و يلا تعالي ندخل جوة عشان حاسس ببرد و عايزك تدفيني و أثبتلك كل الكلام الرومانسي اللي قولتهلك دلوقت قولاً وفعلاً"
ضحكت ويدفعها برفق أمامه إلي داخل الغرفة
"استني بس، طب نفطر الأول وناخد الدوا"
"فطاري ودوايا هاخده دلوقتي"
أغلق عليهما باب الشرفة الزجاجي ويتبعها غلق الستائر، كفت عن الضحك فلديهما حديث من نوع آخر.
❈-❈-❈
لقطات مزعجة تراوضه في أحلامه، ذلك اليوم الذي ظل يدفع ثمنه حتي فقدها للأبد، صرخاتها وهي تتوسل له ليبتعد عنها ويتوقف عن تمزيق ثيابها وهو يقوم بالاعتداء عليها
صرخاتها باسمه
«ياسين... ياسين... ياسين»
استيقظ بفزع ويشهق كالعائد من الموت، ظل لثواني يدرك أين هو وما يحدث حوله، وجد سكون مريب، انتبه إلي جسده العاري ويغطيه الدثار إلي خصره، وقعت عينيه علي ثوب الزفاف الملقي فوق مقعد طاولة الزينة و ثيابه المبعثرة علي الأرض، جواره منشفة قطنية كبيرة، اتسعت عينيه عندما رأي بالقرب من طرفها بقعة دماء!
يتبع...