رواية فوق جبال الهوان الفصل السابع والخمسون 57 بقلم منال سالم


 رواية فوق جبال الهوان الفصل السابع والخمسون 

نظرت بلا تعبيرٍ إلى قطعة القماش المطوية التي تضمها بين راحتيها وهي جالسة في غرفتها، شبه معزولة عن البقية الذين لا يزالون متواجدين بالقصر احتفالًا بليلة زفاف العروسين. تركتها على المنضدة الصغيرة، وعقلها قد شرد في ذكرى حوارها الخاص بالأمس، حينما استدعتها الخادمة "سنية" للحديث مع "غيث"، فانفردت به في الحديقة الخلفية للقصر، ليستطرد قائلًا بهدوءٍ لا يخلو من الجدية التامة:
-أني عارف يا حاجة إنكم مجبورين على الوضع إهنه، وخصوصي "دليلة"، بس لازمًا نتعاملُ كيف ما التقاليد والعُرف معروفين حدانا.
هزت رأسها معقبة:
-أنا فاهمة ده كله يا ابني، بس مش عايزة أضر ببنتي، وإنت عارف أد إيه هي حساسة، وأقل حاجة ممكن تأثر فيها.
أكد لها بهدوءٍ ويقين:
-اطمني، هي أمانة عندي، وأني واخد العهد على حالي ما فرطش في حق من حقوقها واصل.
ابتسمت لتأكيده، وردت في استحسانٍ:
-أد القول يا ابني.
تنفس بعمقٍ، وأضاف في غموضٍ أصابها بالريبة:
-كل اللي طالبه منك يا حاجة، مهما حصل جصادك، تجدري إنه لمصلحة "دليلة".
قطبت جبينها معقبة عليه في صيغة تساؤلية، وقد تجسدت في نظرتها إليه بعض الخوف:
-كلامك ده قلقني أوي، هو بخصوص الكلام اللي يمس سمعتها؟
اندهش من معرفتها بما ظن أنه يدور ويتناقل من ورائها، كذلك برزت لمسة من الحزن في عينيها، وأيضًا نبرتها، حينما راحت تتحدث إليه في شيءٍ من الصراحة:
-ما يغركش إني ساكتة وما بعلقش، بس ليا لي ودان بسمع بيهم، وعينين بشوف بيها، وفي حاجات بتوصلني، بس غصب عني مش حابة أتكلم علشان ما عملش مشاكل زيادة، كفاية إنكم استضفتونا هنا، وفاتحين بيتكم لينا، هيكون أخرتها نضركم؟
ظهر العتاب قليلًا في صوته عندما قال:
-ده مُطرحكم يا حاجة، والحديت العِفش الداير عنها ده مسيري أعرف واد الحــرام اللي جاله...
ثم سكت لهنيهة وتابع بصوتٍ جاد:
-بس زي ما جولتلك لازمًا أكون عامل حسابي لأي حاجة تحصل، حتى لو كانت على غير رضايا.
رغم تحفظها إلا أنها استجابت للأمر قائلة:
-اعمل اللي فيه المصلحة يا ابني وأنا معاك.
حينئذ جدد عهده إليها بمزيدٍ من التأكيد:
-وأني لتاني مرة بوعدك إني مش هفرط في "دليلة" ولا في حقوقها.
واختتم حديثه معها بما أثلج صدرها وأراحها، ليغادر دون أن يقول المزيد، فيما جاءت "إيمان" إلى والدتها وعلى وجهها علامات الحيرة والتعجب، فقد تفاجأت من لقاء الاثنين معًا في هذه الساعة المتأخرة، وقفت قبالتها تسألها في فضولٍ:
-في إيه يا ماما؟ كان عايزك ليه؟
تهربت من جوابها قائلة:
-هقولك بعدين...
ثم عمدت إلى تغيير الموضوع متسائلة باهتمامٍ:
-أختك نامت؟
هزت رأسها وهي تخبرها باقتضابٍ:
-أيوه.
ليسود تعبير واجم على قسماتها وهي تتمتم في خفوتٍ:
-ربنا يعدي يومها بكرة على خير.
استفاقت من الذكرى التي لم تكن ببعيدةٍ عنها على صوت ابنتها البكرية عندما سألتها:
-إنتي كويسة يا ماما؟
نظرت ناحيتها وهي تشعر برطوبة خفيفة في طرفيها، حركت أهدابها لتنفض تلك الدموع العالقة بجفنيها، ورددت بتنهيدةٍ ثقيلة:
-الحمدلله.
أخذت تطلب منها في قدرٍ من الإلحاح:
-مش هنطمن على "دليلة" تاني؟ أنا قلقانة عليها أوي.
لم يخفَ عليها توجسها تجاه شقيقتها، ومع ذلك ردت في تعقلٍ لئلا تفسد ما تم ترتيبه مسبقًا:
-مش أنا مرسياكي على الدور كله؟
لن تنكر أنها أخبرتها صباح اليوم بالاستعداد لأي مستجداتٍ قد تطرأ، وألا تنساق باندفاعٍ وراء ما يستفز حميتها للدفاع والزود عن شقيقتها، وتنتظر اكتمال المسرحية الهزلية للنهاية. زمت شفتيها مبدية اعتراضها:
-بس حالتها مش عجباني، وشها لونه مخطوف، وهي يا حبة عيني زي ما تكون في صدمة، أنا عايزة أكون جمبها، وأفهمها إني استحالة أتخلى عنها.
مدت "عيشة" يدها نحو ابنتها، وربتت على جانب ذراعها برفقٍ قبل أن تؤكد لها باسمة، لتخبئ وراء تلك البسمة الزائفة خوفها الأمومي:
-متقلقيش، "غيث" عمره ما هيأذيها.
سرعان ما انضمت إليهما "فاطمة" متسائلة في استغرابٍ، خاصة بعدما لاحظت أمارات العبوس المرسومة على محياها:
-مالك يا ست "عيشة"؟ واخدة جمب إكده عاد؟ حُصل حاجة ضايجتك؟
ردت تخاطبها في وداعةٍ:
-مافيش يا حاجة، أنا بخير، اطمني.
بدت غير مقتنعة بردها، لذلك وجهت كلامها إلى "إيمان" فسألتها:
-جولي إنتي يا بتي لو أمك مش عايزة تجول.
جاء ردها مماثلًا لوالدتها، فأخبرتها متصنعة الابتسام:
-كله تمام يا ست الحاجة.
لم تضغط عليهما أكثر، وأشارت لهما بالتحرك معها تدعوهما لمضي الوقت مع الضيوف:
-طب تعالوا نجعدوا وسط الحريم نفرحوا ببنتنا وليلتها الجَمر.
أومأت "عيشة" برأسها مرددة:
-حاضر يا حاجة.. تعالي يا "إيمان".
سارت الأخيرة مع والدتها قائلة في طاعة:
-ماشي يا ماما.
.............................................
استغلت فرصة تواجده بالمطبخ لاختطاف بعض اللقيمات ليسد بها جوعه قبل أن يعود لمجلس الرجال، ويتبارى من جديد مع أقاربه في لعبة الضرب بالعصا لتعاتبه على إصراره عن أن تكون ليلة الزفاف هكذا على رؤوس الأشهاد، حيث يعرف الجميع بطبيعة ما جرى بين الزوجين، وإن لم يتواجدوا فعليًا في حجرتهما الخاصة.
أعطت "عبير" زوجها منشفة قطنية ليمسح بها فمه، وهمست بالقرب من أذنه، لئلا تسمع الخادمات حديثهما:
-ارتحت إكده يا "سليمان" لما صممت يتعمل اللي في راسك؟
زجرها محتجًا بتحيزٍ:
-وكان عاجبك الحديت الواعر اللي داير عن مَرَت خوي الكبير؟
سحبته من ذراعه خارج المطبخ، وسألته في نبرة لائمة:
-وهو "غيث" عيل إياك عشان يصدج حديت عفش زي ده؟
استل ذراعه من أسفل قبضتها، ونفض جلبابه هاتفًا بتفاخرٍ:
-الناس ليها الظاهر وبس، واحنا عنمشوا بالأصول، وعملنا اللي خلا راسنا مرفوعة لفوج.
ردت في استعتابٍ أكبر:
-كنت اصبروا على البُنية، دي غريبة عنينا، ومالهاش في عوايدنا.
قال بغير مبالاة، وبجمودٍ معكوسٍ على ملامحه:
-طالما جبلت تكون مَرَت الكبير يبجى تتعودُ على اللي يخصنا.
لحظتها همهمت في صوتٍ خافت، وهذه التكشيرة قد ظهرت على وجهها:
-الحمد لله إن طبع "غيث" غيرك.
لم يتبين بوضوح ما نطقت به بسبب الضوضاء الصاخبة المنتشرة حولهما، فسألها في تحفزٍ:
-بتجولي إيه يا ولية مش سامعك؟
لوت ثغرها قائلة وهي تشير نحو الصالة:
-رايحة أشوف أمي الحاجة عايزة حاجة إكده ولا إكده.
رد في استحسانٍ يوصيها:
-ماشي، وخدي بالك من العيال، وأني جاعد مع بوي والرجالة نتسامروا.
تركته وعادت إلى حشد النساء اللاتي ظللن يرقصن ويصفقن ابتهاجًا بتمام ليلة اجتماع الزوجين وفقًا للتقاليد المتبعة في بلدتهم على أكمل وجه، وبما يثبت كذب مُطلق الشائعات وبراءة ذات العِفة والجمال.
.............................................
بأعجوبةٍ تمكنت من إيقاف موجات الدموع التي انهمرت من عينيها، لتظل جالسة عند حافة الفراش، مستندة بجانب جسدها على عارضة السرير، ومتطلعة إلى "غيث" الذي وقف مجاورًا للشرفة يحدق في الفراغ الأسود الممتد على مرمى البصر من وراء الزجاج المعتم. 
خيم الصمت بينهما لوقت ليس بقليل، برغم الصخب المتسرب إليهما من الضوضاء الدائرة بالأسفل؛ لكنه لا يقارن بالسكوت الثقيل الذي ساد بينهما، وكأنهما غريبان لا يجمعهما سوى القدر. دون أن يلتفت نحوها قطع "غيث" ذاك الحاجز قائلًا في لهجةٍ تبدو إلى حدٍ ما آمرة:
-جومي غيري توبك والبسي خلجات تريحك يا بت الناس، مش عتفضلي إكده.
ربما طلبه ذلك منحها الفرصة للاختلاء بنفسها بداخل الحمام الملحق بالغرفة، والابتعاد عن محيط التوتر، لذلك قالت في إذعانٍ وهي تستعد للنهوض:
-طيب.
صوتها الحزين استحث فيه تلك الرغبة الملحة للالتفاف نحوها، والإسراع ناحيتها لجذبها إليه وضمها في أحضانه لاحتواء ما آلم بها من حزنٍ وألم، بل والاعتذار منها بندمٍ عن أي أذى تسبب لها فيه بغير قصدٍ من أجل عادات مُهلكة، ومعتقدات مُلزمة تخنق صاحبها باتباعها. 
زفر الهواء من رئتيه ثقيلًا، وحادث نفسه في رجاءٍ: 
-ربنا يهدي الحال.
...........................................
الشخصية الجديدة الجامدة، غير المبالية، والمتحكمة بتمرسٍ في عواطفها أثارت حفيظتها وانزعاجها، ربما منحها "غيث" الفرصة للانفراد بنفسها والشعور بالخصوصية؛ ومع ذلك بقي شيء ما يحز في قلبها، ويدفعها للشعور بالاستياء والإحباط، خاصة كلماته الأخيرة الموجهة إليها، وكأنه يفرض عليها قواعدًا جديدة لم تكن موضوعة في الحسبان. 
استغرقت "دليلة" وقتًا طويلًا في تغيير ثوب عرسها شبه الممزق من عند كتفيها، وارتدت على مهلٍ منامة بيضاء حريرية ذات أكمام طويلة بعدما تحممت واغتسلت. وقفت أمام مرآة الحمام تتأمل وجهها التعيس بتعبيرٍ مصدوم، حيث كان ملطخًا ببقايا آثار مساحيق التجميل الخفيفة، مما منحها شكلًا مفزعًا لكل من يراها، فيظن أنها تعرضت للاعتــداء الوحشي، وليس لحبكةٍ مستهلكة، لم تُمس فيها بأذى.
فتحت الصنبور، وغسلت وجهها جيدًا، لتمحو تلك الآثار الزائفة من على قسماتها، تأملت مجددًا هيئتها وشعرت بالراحة لأنها عادت لطبيعتها الرائقة، وبشرتها اكتسبت القليل من الحيوية؛ لكن ما لبث أن هاجمها التوتر، حيث بدت شبه مترددة في الخروج ومواجهة "غيث"، خاصة وهما يعدان –مجازًا- بمثابة زوجين، بدا من الصعب عليها تخمين ما يدور في رأسه، كانت متأكدة أنه لن يقترب منها، ولن يسمح لنفسه بإجبارها على ما لا ترغب فيه؛ لكنها تخجل من التواجد في محيطه وهي بتلك الأريحية في المظهر والثياب.
عندما طال غيابها بالداخل، سمعت دقات خفيفة على باب الحمام، فانتفضت في تخوفٍ، وهتفت مرددة وهي تضم يديها إلى قلبها الذي تلاحقت دقاته:
-أيوه!!
سمعت صوته يسألها من الخارج:
-إنتي بخير؟
قالت في إيجازٍ شديد وهي تستشعر اضطراب أنفاسها:
-أه.
برر لها سبب إزعاجه لخلوتها:
-جلجت لما لجيت طولتي جوا.
أتاه ردها سريعًا، وكأنها تحاول التغطية على ما ينتابها من تخبطٍ وحيرة ممزوجة بالخجل:
-أنا خارجة أهوو.
أحست بابتعاد صوته وهو يخاطبها من وراء الفاصل الخشبي المتجسد في الباب:
-خدي راحتك.
ظلت تتنفس بعمقٍ لدقيقةٍ أو أكثر بقليل لتستعيد انضباط أنفاسها، ثم حركت القفل في المزلاج وتأهبت لفتح الباب. سارت بتباطؤٍ نحو الخارج، متوقعة أن يكون في انتظارها، إلا أن الغرفة كانت خالية منه، فانقبض قلبها في توجسٍ، سرعان ما أبصرته يقف بالشرفة، فتسمرتٍ في موضعها تراقبه في صمت، لتجده قد استدار ناحيتها، ليتأملها مليًا وهي تبدو كثمرة شهية آن أوان قطفها.
بالنسبة له كانت فاتنة، خاطفة للأنظار، وسالبة للعقول، إنها معذبته ومهلكته في نفس الوقت. يكاد يجزم لو لم يقطع العهد على نفسه ألا ينالها سوى برضاها التام لضرب بما قطع عرض الحائط، وتمتع بنعيم جنتها المغرية. 
بإرادةٍ من حديد تمكن من الحفاظ على جمود تعابيره، وخاطبها فيما يشبه الرسمية وهو يشير بيده نحو صينية الطعام:
-الوكل هناك، كلي حاجة.
هزت كتفيها رافضة بحرجٍ، وهي تمسك طرف بلوزتها بقبضتها وتكورها عليها:
-ماليش نفس.
أولاها ظهره قائلًا:
-براحتك .. بس حرام يترمى الوكل ده بعد ما تعبوا فيه.
عضت على شفتها السفلى وتحركت نحو الصينية، خاصة بعدما استشعرت ذلك الزئير الخافت في معدتها، والذي يستحثها على تناول ما يسد رمقها. نظرت إليها مرة أخرى وسألته وهي تجلس على الأريكة:
-إنت مش هتاكل طيب؟
وجدته يستدير نحوها قبل أن يدنو منها ليتناول وهو واقف قطعة من اللحم مرددًا:
-لأجل الحُرامنية هاكل لجمة إكده.
شتــان الفــارق بين تناولهما الطعام معًا، فقد كان يتحين الفرصة للتودد إليها بعد عقد القران، والاستمتاع بدفء وجودها، وها هو اليوم بعدما انغلق عليهما باب غرفة واحدة يكافح ليبقى مسافة آمنة وبعيدة عنها، وإن كان الأمر استكمالًا للمسرحية الزائفة التي يؤدي كلاهما دورهما فيها. 
عزف وبوضوحٍ عن مشاركتها أي شيء، وكأنه لا يريد خلق أي ذكرى بينهما أو الانحراف عن المسار الجديد الذي رسمه لعلاقتهما، ليتخللها هذا الشعور المؤلم بالجفاء والقسوة. 
شعرت وهي تبتلع بصعوبةٍ إحدى اللقيمات بأنها تتجرع علقمًا مريرًا، فاكتفت بالقليل، وأمسكت بالملاءة الصغيرة لتعيد تغطية الطعام قبل أن تتجه للحمام لتغسل يديها وتعود لتستقر جالسة على الأريكة.
...........................................
لم تكمل حضور الاحتفال بتمام ليلة الزفـــاف، وانسحبت تجرجر أذيال الحسرة والخيبة، بعدما فسد كامل مخططها، وأصبح زواجهما واقعًا حيًا. راحت "أحلام" تنوح وتولول لاطمة على خديها تارة، وعلى صدرها تارة أخرى، قبل أن ترفع عباءتها للأعلى، كما لو كانت على وشك شقها، لتندب عاليًا في حُــرقةٍ والتياع:
-النار جايدة في جتتي، بجى دلوجيت التنين سوا، نايمين في حضن بعض؟
لتزيد من لطمها وعويلها وهي تتساءل في حقدٍ وكره:
-أومال أني كنت بعمل كل ده ليه؟ أكيد ده كدب.
من ورائها وقفت خادمتها تتابعها في إشفاقٍ، لترجوها وهي تحاول أن تبعد يديها عن وجهها الذي التهب من كثرة صفــعها لنفسها:
-إهدي يا ست "أحلام"، الجهرة عِفشة عشانك.
نفضت يديها قبل أن تمسها، وصرخت في لوعةٍ:
-وأي جهرة يا بت، بـــااااااه!
لتظلم عينيها بشدةٍ، وتكمل في وعيدٍ خبيث وهي تنتزع خصلة من شعرها لتلفها حول يدها:
-بس وحياة مجاصيصي دول مش ععتقجها بت المحـــروق دي، آخرت جوزتها على يدي!
وكأن شيطان نفسها اللئيم قد وسوس لها بأمر أشد وطأة، فبرقت عيناها بتلك اللمعة المخيفة وهي تلتفت متحدثة إلى خادمتها:
-بجولك إيه يا بت المركوب.
تغاضت خادمتها المخلصة عن إهانتها الفجة، وأبدت اهتمامها الفوري بما تريد:
-أؤمري يا ستي.
أمسكت بها من ذراعها تجذبها ناحيتها، لتهمس لها فيما يشبه فحيح الأفعى:
-أني عايزاكي تعملي اللي عجولك عليه.
أرهفت الأخيرة السمع لكل ما تبثه من سمومٍ في أذنيها، وراحت تهز رأسها بإيماءاتٍ متواترة، لتعبر عن استجابتها لكافة مطالبها، ولو كان في ذلك هلاكها.
...........................................
تمكن منها تعب اليوم بأكمله، وصار جسدها يُلح عليها لتنال قسطًا من الراحة، إلا أنها قاومت هذه الرغبة المغرية بأقصى طاقتها، فكيف لها أن تتشارك معه نفسه السرير؟ ثقل جفناها، وراحت تتراءى لها خيالات غير حقيقية، تدفعها نحو السقوط في نومٍ عميق، رأى "غيث" محاولتها المستميتة للبقاء يقظة وهي جالسة على الأريكة، فنفخ الهواء بصوتٍ مسموع، وأمرها:
-جومي نامي على فرشتك.
انتفضت "دليلة" لسماع صوته، ونظرت ناحيته مرددة وهي تجاهد لطرد النعاس من عينيها:
-نعم؟
أخبرها بحزمٍ مشيرًا بإصبعه نحو الفراش:
-كيف ما سمعتي، جومي افردي جتتك على فرشتك.
رفضت بعنادٍ وهي تكتف ساعديها أمام صدرها:
-لأ، أنا هنام هنا، ده سريرك، وأنا دخيلة على أوضتك.
كرر كلمتها العجيبة بفمٍ ملتوٍ، وكأنه يستنكر وصفها غير المستساغ:
-إيه؟ دخيلة؟ إيه الحديت ده؟
أوضحت له وهي ترمش بعينيها:
-يعني أنا وجودي مؤقت هنا، مش معقول هبوظلك النظام اللي إنت متعود عليه!!
تجاهل إعادة استخدامها لنفس الكلمات التي كانت تثير غضبه سابقًا، وأصر عليها بتصميمٍ:
-ملكيش صالح بيا، جومي ريحي على فرشتك، وأني هجعد على الكنباية دي.
هزت رأسها رافضة بشكلٍ قطعي:
-لأ طبعًا، مش هيحصل.
هتف في ضجرٍ، وفيما يشبه التحذير:
-لا إله إلا الله، ما تركبيش دماغك يا بت الناس على حاجة هايفة زي دي، جومي الله يرضى عنيكي ونامي في فرشتك.
عاندته أكثر بإصرارها:
-دي مش فرشتي، ده سريرك إنت.
قال في عنادٍ يفوقها:
-وأني متنازلك عنه.
ضمت شفتيها معًا، وهزت رأسها بالنفي قبل أن تفتحهما لتقول:
-هنام هنا.
افتقر إلى طاقة الجدال، خاصة وهي تثيره بعنادها، ومحاولتها الصمود في مجابهته، فتحرك من فوره صوبها، لتتفاجأ به في طرفة عين واقفًا أمامها، قبل أن تدرك ما حدث انحنى عليها، وأخذ يحيط بأحد ذراعيه جسدها، والآخر مرره أسفل منها ليحملها بخفةٍ بين ذراعيه، شهقت مصدومة، واستندت بيديها على صدره الدافئ، لتستشعر دقات قلبه أسفل راحتيها، حيث كان ينبض بقوةٍ وثبات. طالعته من هذا القرب الموتر، لتجده يرمقها بنظرة جامدة وهو يخبرها:
-أني مافياش خلق أتحدد كتير.
سألته في صوتٍ مرتعش، وهي تشعر بسريان تيار عجيب أشبه بالرعدة في جسدها جراء وجودها في أحضانه:
-إنت بتعمل إيه؟
استدار عائدًا نحو الفراش، أجلسها عليه برفقٍ قائلًا بجمودٍ يشابه الجليد:
-خليكي إهنه.
قبل أن تفكر في النهوض انحنى مرة ثانية عليها، لتضطر إلى الميل بجسدها للخلف متحاشية قربه الذي يلبكها ويربكها، رمقها بنظرة غامضة، فازدادت توترًا، ليخفض نبرته قائلًا بنبرة محذرة:
-ولو جمتي من المُطرح هرجعك تاني، وخلونا نجضيها إكده طول الليل، إنتي تجومي وأني أشيلك.
اختلج بشرتها حمرة دافئة تصاعدت من أوردتها مرة واحدة، إلى أن ارتكزت في منطقة وجهها، لتبدو خجلة أكثر من قربه الشديد، ومن كلماته المتحدية. 
أبصر ما غدت عليه من ارتباكٍ يشتهيه، فاستقام في وقفته متراجعًا عنها ومتجهًا نحو مفتاح الإنارة المجاور لباب الغرفة ليخاطبها بنفس ذلك البرود المصطنع:
-وبعدين أني متعود أنام في أي مُطرح وعلى أي حالة.
ابتلعت ريقها، وردت عليه بصوتٍ لا يزال تسوده سمة الارتباك:
-أنا بس مش عايزة أحس بالذنب وآ...
قاطعها متسائلًا في غير اهتمامٍ، وكأنه لا يكترث بما تفوه به:
-هطفي النور، ولا بتخافي من الضلمة؟
ردت عليه بوجومٍ بعدما أدركت عدم مبالاته:
-براحتك.
ضغطت على زر الإنارة، فغرقت الغرفة في الظلام، ليتجه بعدها نحو الأريكة قائلًا في رسمية:
-تصبحي على خير.
ردت عليه وهي تسحب الغطاء إلى جسدها لتغطيه بعدما تمددت على الفراش:
-وإنت من أهله.
كان ممتنًا لأن تلك العتمة حجبت ما أصاب جسده ووجدانه من تأثير اقترابها المغري عليه، حتى ذلك الجمود الزائف الذي يدعيه في حضرتها لم يكن ليصمد أمام نظرة واحدة بريئة من عينيها، يا ليته لم يقسم! يا ليته لم يختبر شعور القرب ودفء الأحضان!
.......................................
كان من طبيعتها، وإن كانت في حالة من الإرهاق والتعب، ألا تستغرق في النوم على فراشٍ لم تنم عليه من قبل، لذلك وجدت "دليلة" صعوبة في الغفو رغم حاجة بدنها المُلحة للراحة والاسترخاء، فأخذت تتقلب على جانبيها محاولة الاعتياد على موضع نومها الجديد، بالطبع لم يمر الكثير من الوقت عندما سمعت صوت انتظام أنفاس "غيث"، فأدركت أنه يغط في نومٍ عميق. تثاءبت بصوتٍ خفيض، واستلقت على ظهرها محاولة تخطي أفكار رأسها التي تبقيها يقظة، والاستسلام لتأثير سلطان النوم، إلا أن أذناها قد التقطتا ذلك الصوت الخافت الآتي من الخارج، وكأن أحدهم يحاول فتح باب الغرفة بهدوءٍ وحذر.
في البداية ظنت أنها تتوهم ذلك، إلا أن الخشخشة المصاحبة لإدارة مقبض الباب جعل بدنها ينتفض، وقلبها يدق بقوةٍ من الخوف، سيطرت عليها حالة من الذعر، معتقدة أن أحدهم قد جاء لاقتحام الغرفة، فنهضت بخفةٍ من على الفراش، وسارت على أطراف أصابعها متلمسة طريقها عبر العتمة التي اعتادت عينيها عليها نحو الأريكة النائم عليها "غيث". 
وقفت بجواره، ومالت عليه، تربت على صدره برفقٍ لتوقظه وهي تناديه بصوتٍ يكاد يكون مسموعًا لئلا تثير انتباه من بالخارج:
-"غيث"، "غيث"!
على إثر لمستها المباغتة تلك، ظن الأخير أن أحدهم يبادره بالهجوم، فانقض كردة فعل لا إرادية على معصمها قابضًا عليه، وجاذبًا إياها نحوه بقوةٍ، ومُشهرًا بيده الأخرى سلاحه في وجهها، فشهقت في هلعٍ تخبره بهويتها، وقد سقطت تلقائيًا في أحضانه: 
-دي أنا، "دليلة".
سرعان ما تبين ملامحها، وردد في اندهاشٍ:
-واه، وبتعملي إيه؟
استندت بيدها الأخرى على صدره لتتمكن من الابتعاد عنه، فتوتر من اقترابها، وحرر رسغها مكملًا أسئلته إليها وهو يعتدل في رقدته:
-بتتسحبي ليه إكده كيف الحرامية يا بت الناس؟
استقامت واقفة، وأشارت نحو الباب هامسة:
-سامعة صوت خرفشة جاية من برا، وزي ما يكون في حد واقف ورا الباب، خوفت يكون حرامي.
دعك وجهه بيده ليطرد بقايا آثار النوم من جفنيه، وعلق ساخرًا:
-ده يبجى حرامي غشيم، لما يكون سايب كل بيوت البلد، وجاي حدا جصر كبيرهم لأجل ما يسرجَه.
هنا رددت فجأة بعدما أرهفت السمع لنفس الخشخشة الخافتة:
-سامع؟!
تكرر نفس الصوت، فانتفض قائمًا، ووضع يده على فم "دليلة" لئلا تصدر صوتًا فتلفت انتباهه، وخاطبها في لهجة آمرة: 
-بطلي حديت، وأني هشوفه.
شعر بحُر أنفاسها على راحة يده، فأبعدها في تمهلٍ، وجذبها خلفه يحذرها بصوتٍ خفيض:
-خليكي مُطرحك.
ليتفاجأ بها تتشبث في ذراعه، وتهمس في رجاء:
-أنا خايفة يا "غيث".
ناظرها رغم العتمة بتلك النظرة التي لو كانت محظوظة لرأت مدى صدقها وعمقها، سرعان ما امتدت يده نحو جانب وجهها تتلمسه برفقٍ وحنو، داعب بشرتها الدافئة بأصابعه مؤكدًا لها أنه درعها المتين، وحصنها القوي:
-متخافيش، أني إهنه معاكي، مافيش حد هيجدر يجرب منك طول ما فيا النفس.
هزت رأسها بإيماءة خفيفة كأنما تؤمن على كلامه، ليتركها متجهًا صوب الباب في خفةٍ وهدوء، لاحظ كيف يُدار المفتاح وكأن أحدهم يحاول تحريكه من الخارج لفتح الباب، فتركه يظن أنه يكلم عمله، إلى أن تمكن من إدارة المقبض، لحظتها فقط فتحه على مصراعيه، لتسقط الخادمة "سنية" عند قدميه من هول المفاجأة والصدمة غير المتوقعة.
رفعت ناظريها إليه مرددة في فزعٍ حقيقي، خاصة بعدما أضاء الغرفة لترى ملامح وجهه المخيفة مسلطة عليها:
-سيدي "غيث" ....................................... !!!


تعليقات