رواية قلب السلطة الفصل الثاني والاربعون 42 بقلم مروة البطراوي


 

 رواية قلب السلطة الفصل الثاني والاربعون 

لم تكن نيرفانا بحاجة إلى سماع رنين الهاتف، أو خطوات أبيها السريعة نحو الأسفل، لتدرك أن شيئًا كارثيًا قد حدث للتو. لقد كانت كلمات رائد الأخيرة، قبل أن يندفع خارجًا، ترن في أذنيها كصافرة إنذار حادة:

"اطلعي أوضتك و اعتبرى الكلام ما بينا ما حصلش. اوعي يا نيرفانا."

"اوعي يا نيرفانا." كانت هذه الجملة تحتوي على تهديد مبطّن، أقوى من أي عقاب صريح.

ظلّت واقفة في قلب المكتب، تنظر إلى الباب المغلق الذي ابتلع والدها، ثم التفتت إلى الورقة "الفاضية" التي مدّها بها. شعرت أن جسدها يتحول إلى قطعة ثلج لا تستطيع الحركة. لم يكن لديها أدنى شك في أن "دادي" كان يخطط لشيء أكبر بكثير من مجرد إنهاء علاقتها بأوس. إن بروده وقراره الحاسم بأنها "سلطته" وليس "ابنته" اخترق قلبها بجرح أعمق من خذلان أوس.

الآن، وبعدما سمعت أصوات الترحيب العالية التي تتسلل من الطابق السفلي، علمت أن "معالي الباشا" قد وصل. من هو هذا الرجل الذي جعله رائد ينسى انهيار ابنته في لحظة؟ ومن هو الذي قال لها ألا تتوقع أن يسألها عن أوس لأنه "يعلم كل شيء"؟

اندفعت خارج المكتب، خطواتها لا تقل سرعة عن خطواته، لكنها لم تتجه نحو غرفتها. توقفت عند أعلى السلم، تلتصق بالسور الخشبي، والفضول القاتل يشدها من مكانها. من هذه الزاوية، كانت تستطيع أن ترى المدخل ومنطقة الاستقبال بوضوح.

ورأت وجهه.

رأت آسر العزبي. الرجل الذي اعتادت أن تسمع اسمه في الصحف مرتبطًا بالصراعات القانونية المعقدة والصفقات الغامضة. رأت المصافحة الحارة بينه وبين والدها، وسمعت كلمات الترحيب التي فاضت بالدهشة والود المصطنع. أدركت أن العداوة القديمة بينهما لم تكن سوى واجهة تخفي اتفاقًا سريًا، أو ربما كانت تمهيدًا لصفقة أهم.

لم يمر وقت طويل حتى صعدت الخادمة إلى الطابق العلوي لإحضار القهوة، ثم عادت وأغلقت باب المكتب خلفها. الصمت الثقيل هو الذي ساد، ولكن نيرفانا ظلت متشبثة بمكانها، تقضم شفتها السفلى، تحاول أن تستوعب كيف يمكن لأبيها أن يتخلى عنها بهذا الشكل. لقد طلبت منه أن يبعد أوس عنها، فهل يعاقبها بتحالفه مع عدوه؟

صوت والدها الرخيم وصل إليها بصعوبة، ممزوجًا بصوت آسر المتبختر، لكن الجملة الأخيرة التي نطق بها رائد كانت واضحة جدًا... واضحة ومُدمّرة:

"آسر باشا... بعد تفكير طويل، ما لاقيتش أنسب من حضرتك أتباهى بشرف نسبه. وسبب طلبي... إني عايز جواز بنتي من ابنك."

ضرب القرار قلبها كالصاعقة. لقد أصبحت مجرد ورقة في يد والدها. قطعة شطرنج في لعبة أكبر. ابتلعها الحزن والغضب معًا، ولم تعد دموعها تستطيع الخروج. هي لم تطلب الابتعاد عن أوس لتُرمى في أحضان ابن الرجل الذى جعل اوس يدخل حياتها .

شعرت بالدوار، وكأن سلالم المنزل بدأت تهتز تحت قدميها. "زواج!"... قبل أن تكمل الثامنة عشرة، وقبل أن تعرف من هو "ابنه" حتى. "أنا مش ضعيفة." قالتها لنفسها للمرة الأخيرة، لكن صوتها الداخلي كان خافتًا، مهزومًا.

فهل كانت هذه هي "السلطة" التي أشار إليها والدها؟ أن تكون بلا حول ولا قوة، مجرد أداة لتثبيت عرش رجلٍ لا يرى فيها سوى "وريثته الوحيدة"؟
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜

توقف آسر فجأة، جحظت عيناه بدهشة:

– "معلش يا رائد... عيد اللي قولته تاني!"

ردّ رائد بهدوء:

– "قلت... عايز ابنك لبنتي. هو مش مرتبط وكمان فاضله سنة ويتخرج... الجواز ممكن يتم في أي وقت. موافق؟"

تردّد آسر، ثم قال:

– "موافق طبعًا. بس في حاجة ورا رغبتك دي؟"
ابتسم رائد باقتضاب:

– "في... بس ما تشغلش بالك. كل اللي أريده إنها تكون في ضهر راجل، مش ضامن بكرة إيه، وهي لسه ما كملتش 18 سنة."

غاصت ريبة في عيني آسر، وقال:

– "لو عندك مشكلة... قولي، يمكن أقدر أساعدك."

ردّ رائد بابتسامة باهتة:

– "ما تقلقش يا باشا... أنا بعرف أسلك نفسي كويس. بس بنتي عندي في المقام الأول. أومّال! دي وريثتي الوحيدة، وكل ما أملك ليها... حياتي كلها."

ابتسم آسر بمزيج من الطمع والاطمئنان:

– "اطمّن يا رائد... بنتك في عنيا من غير أي حاجة."

أومأ رائد برأسه بهدوء، وصمت، بينما كان يخطط في داخله، حيث تكون نيرفانا مجرد قطعة تُحرك في الوقت المناسب.

---

💔 قلب السلطة 💔
تلقف آسر الأوراق التي وضعها رائد أمامه ببراعة، وعيناه تقرآن السطور بهدوء مصطنع، بينما كان عقل رائد يزن ردود فعله.

"أنت بتعمل حساب لكل سيناريو يا رائد بيه." كرر آسر، ثم رفع عينيه عن الورق ليواجه رائد مباشرة.

"ده شغلي يا باشا." رد رائد، وعيناه لا تفارقان تعابير آسر. "لازم أضمن إن السلطة تفضل في يد السلطة. نيرفانا مش هتكون مجرد زوجة صامتة لابنك، هي هتكون الضلع الثالث في شراكة لا يمكن كسرها. أنت بتستثمر في ورقة رابحة، وعليك أن تضمن مستقبلها."

ضحك آسر بصوت خفيض، مليء بالسخرية: "أنت بتتكلم في فلوس يا رائد، و أنا مش مختلف. بس خلينا نكون صرحاء... الصفقة دي بتفكرني باللي فات. أنت دايماً بتعمل تحركات بتضمن إنك تكون اليد العليا. إيه اللي يمنع إنك تكون بترمي بنتك دلوقتي عشان تكسبني في صفقة أنا مش واخد بالي منها؟"

مال رائد بجسده للأمام قليلاً، واختفت الابتسامة المصطنعة من على وجهه، ليحل محلها جدية قاسية:

"اللي يمنع يا آسر، إن الماضي انتهى. أو على الأقل، أنا قررت إنه ينتهي. الحرب بينا طولت كتير، وكسبنا فيها وخسرنا. واللي خسرناه أكتر من اللي كسبناه. أنا ما عنديش غير البنت دي، وأنت ما عندكش إلا ابنك. أنا عايز أأمن ظهرها في وجه أي مفاجأة."

نفث رائد دخان سيجارته وقال بنبرة ذات مغزى: "أنت عارف كويس إن ورثتي مش سهلة. وعارف كمان إن في أي لحظة، ممكن حد من ولاد الحرام اللي استخدموك زمان و استخدموني أنا كمان، يقلبوا الطاولة على الكل. لو نيرفانا متجوزة ابنك، هتكون محمية بقوتين بدل واحدة. ده مش تحالف ضعف، ده تحالف سيطرة."

أخذ آسر رشفة من قهوته التركية، يفكر بعمق. رائد كان يتحدث بمنطق يصعب رفضه، لكنه كان يعلم أن وراء كل كلمة لغز.

"طيب، لو أنا مضيت على العقود دي، اللي بتدي بنتك حق التصرف في أجزاء معينة من أصولي، إيه المقابل المباشر ليا؟ غير المصاهرة اللي أنا مرحب بيها طبعاً." سأل آسر بذكاء، محاولاً تحديد الثمن الحقيقي للصفقة.

ابتسم رائد ببطء، ابتسامة المنتصر: "المقابل... إن ابنك هيدخل عالم ما كانش يحلم يدخله. بنتي هتكون معاه في قلب  العالم،  ده عارفة كل الخبايا والأسرار. هتكون شريكته في الإدارة، مش شريكة حياته في البيت بس. يعني باختصار: أنا هورّث ابنك جزء من سلطتي، مقابل إنك تضمن سلامة سلطتي (نيرفانا)."

تابع رائد بهدوء، يراقب تأثير كلماته: "بالإضافة طبعاً، إلى ورقة قضية مهاب اللي مش هتكلم عنها هنا. الورقة دي في أمان، وهتتسلّم لابنك بعد توقيع عقد الزواج النهائي. وهتضمن إن  هو مش  أنت، اللي يكون صاحب الفضل الأكبر في إنهاء المشكلة دي."

جحظت عينا آسر للحظة، لم يستطع إخفاء صدمته. قضية مهاب... أخو ليلي، زوجة رائد. هذه القضية كانت تمثل نقطة ضعف حقيقية يمكن أن تهز أركان إمبراطورية رائد. و تسليمها الي شخص آخر يضمن سلامة الإمبراطورية بأكملها .

"أنت بتلعب بالنار يا رائد." قال آسر بنبرة تحذير.

"بالعكس يا باشا، أنا بطفيها." رد رائد وهو يدفع القلم الفاخر نحو آسر. "اكتب لي تعهدًا بإن ابنك هيضمن أمان نيرفانا بالكامل، ووقع على العقود دي. بعدها، اعتبر إننا فتحنا صفحة جديدة أساسها الثقة والورثة. وإلا..."

لم يكمل رائد جملته، لكن التهديد كان واضحاً في الفراغ الذي تركه.

مدّ آسر يده للقلم. إنه يكره رائد، لكنه يعلم أن هذه فرصة لا تعوض لابنه، وفرصة لإنهاء حرب قديمة لا يبدو أن لها نهاية. والأهم، أن نيرفانا، الوريثة الوحيدة، كانت مغرية جداً.
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜 

تراجع "رائد" إلى الخلف قليلًا، وهو يتأمّل ابنته، التي ما زالت تحدّق فيه بعينين واسعتين يغمرهما الذهول، كأنّها تسمع نبوءة لا تليق بعمرها. شهقت "نيرفانا"، وارتجف صوتها وهي تنطق بالكلمات:

– "بس... إزاي؟! هتجوز واحد عمري ما شُفتُه؟! و... ليه؟ ليه إنت عملت كل ده؟!"

رفع "رائد" حاجبيه قليلًا، محتفظًا بغموضه المتعمد. لم يجبها كما ينبغي، بل قال بلهجة صارمة، نبرتها لا تقبل الجدل:

– "الولد شاب محترم، ووسيم، واطمني... متعلّم كويس، وأبوه راجل له وزنه في البلد. يعني مش هرميكي في أي حتة والسلام."

هزّت "نيرفانا" رأسها ببطء، تتوسل إلى المعنى أن يتضح، وقالت متحيرة، نبرتها ممزوجة بالرجاء:

– "طيب… فهمني بليز… ليه؟!"

ردّ "رائد" ببرود أشبه بالجدار:

– "من غير ليه… إنتي تسمعي كلامي وتسْكتي. أنا مش هضرك. وبالمناسبة، أنا اشترطت عليه حاجات كتير، ومن ضمنها إن ابنه يسيبك براحتك، لحد ما تاخدي عليه. وهم أصلاً عارفين إنك لسه صغيرة. اطمني… أنا مرتّب لك كل حاجة."

زفرت "نيرفانا" زفرة طويلة، مريرة، يائسة، ثم تمتمت بصوتٍ خافت:

– "طيب… عقد الجواز ده مظبوط… ولا؟"

أجابها بسرعة، وهو يمدّ ذراعه نحو الطاولة:

– "طبعًا مظبوط! على إيد مأذون، واتنين شهود كمان. مش فاضل غير إمضتك."

ناولها قلمًا أسود أنيقًا، ثم أردف بلهجة آمرة:

– "وقّعي… يلا."

تردّدت "نيرفانا"، نظرت إلى الورقة، ثم إلى أبيها، وقد غمرها ارتباك لم تعهده من قبل. شيء ما كان يخنقها، لكنها، في النهاية، مدت يدها المرتعشة وأمسكت بالقلم، ثم خطّت توقيعها بتمهّل، كمن يوقّع على مصير.

– "تمام!" تمتم "رائد" وهو يسحب الورقة من تحت يدها سريعًا، كأنّه يخشى أن تتراجع في اللحظة الأخيرة.

أخذ الملف من الطاولة، وجمع الأوراق معًا، ثم ناولها مجموعة أخرى من النسخ وقال:

– "الورق ده… نُسخ من الأصول اللي أنا حاططها في خزنة البنك. خليه معاكي، هو وقسيمة جوازك. وفي الوقت المناسب… تطلّعيه."

ارتبكت "نيرفانا"، وابتلعت ريقها بصعوبة، ثم تمتمت بتوجّس لم تستطع إخفاءه:

– "إنت بتعمل كل ده ليه؟ على فكرة… إنت بترعبني!"

نظر إليها نظرة صارمة، تقشعر لها الأبدان، ثم قال بتحذير نبرته أشبه بصفعة:

– "إوعي… إوعي تتهزّي أو تخافي من أي حاجة، مهما حصل. إنتي صغيرة… آه، بس إنتي بنتي!… فاهمة يعني إيه يا نيرفانا؟!"

رمقته بنظرة مرتجفة، لم تكن مجرد ابنة تسمع نصيحة أبيها… بل كانت إنسانة تشعر أن هناك ما يُدار حولها دون أن يُفصح عنه. كل شيء يبدو مموّهًا، مشوّهًا، كالحقيقة التي لا تُرى كاملة.

– "بس أنا… مش فاهمة حاجة!" همست بمرارة، وقد ترقرقت الدموع من جديد في عينيها المتعبتين.

– "إنت مش عايز تقولي… إيه سبب كل ده؟!"

ابتسم "رائد" ابتسامة غامضة، لا دفء فيها، بل خليط من الخبث والمكر، ثم قال:

– "ما تقلقيش… بكرة هتفهمي كل حاجة… وهتشوفي بعينك كمان."

ثم تابع وهو يتنهّد، كأنّه يعلن نهاية الحديث:

– "لما تطلعي أوضتك… هتلاقي رسالة من… غيث."

– "مين غيث؟!" قاطعته "نيرفانا" بسرعة، وقد تجمّد الدم في عروقها.

ابتسم "رائد" ابتسامة أبويّة زائفة، وقال ببساطة:

– "ده جوزك يا حبيبتي. كلميه واتعرّفي عليه براحتك… وقريب أوي هتتقابلوا وجهًا لوجه."

ثم أضاف بنبرة متأنّية، كأنه يلقّنها درسًا في الأداء:

– "عايزك تكوني لطيفة معاه يا نيرفانا… سمعاني؟!"

رمقته بذهول، عقلها لا يستوعب ما يجري، لكنها أومأت برأسها خضوعًا، كأنّها ترفع الراية البيضاء على سارية قلبها.

ابتسم رائد أخيرًا، وقال وهو يشعل سيجارًا جديدًا:

– "برافو عليكي… أيوه كده… اسمعي كلامي، وإنتي هتبقي كويسة. هتبقي كويسة أوي."

سادت الغرفة لحظة صمت طويلة… لكنّ الصمت هذه المرة كان يحمل جرسًا خفيًّا، يشبه بداية الخطر، لا نهايته.

---
💔 قلب السلطة 💔
التقطت نيرفانا الهاتف بيدٍ ترتجف على الرغم من محاولتها الجاهدة للثبات، واعتدلت في جلستها أمام عدسة الكاميرا. ظهر على الشاشة وجه الشاب الذي لا تعرف عنه شيئًا سوى اسمه ومنصبه.

"أهلاً نيرفانا." قال غيث بصوته الرخيم، وهو يرمقها بنظرة جادة. "شكلِك جاهزة للكلام."

استجمعت نيرفانا شجاعتها المتبقية، وحاولت تقليد برودة أبيها المعتادة في التعامل مع المواقف الضاغطة.

– "أهلاً بيك غيث. أيوه، جاهزة. مش شايف إننا محتاجين نعرف شوية تفاصيل خاصة بالـ 'ترتيبات' قبل ما نتفاجئ بأي حاجة؟" نطقت كلمة "الترتيبات" ببطء وتأكيد، لتبرز سخف الموقف برمته.

لم تتغير ملامح غيث. بدا وكأن سؤالها لم يثر اهتمامه على الإطلاق.

– "أكيد. عشان كده أنا اللي بعتلِك الرسالة. التفاصيل الأساسية الأهل اتفقوا عليها خلاص، ومش شايف أي داعي نغير فيها." تابع غيث بلهجة عملية بحتة: "خلاصة الكلام، الجواز ده عبارة عن شراكة شغل بوش اجتماعي."

تشنجت نيرفانا داخليًا، رغم أنها كانت تتوقع هذا الرد القاسي.

– "شراكة شغل؟ يعني مش جواز بجد؟" سألتها، محاولة أن تقتنص أي بصيص أمل في أن يكون هذا العقد مجرد ستار.

– "بالنسبة لي، هو كده بالظبط." أجاب غيث بهدوء قاتل. "أنا بحترم رغبة والدك إن الأمور تفضل بيننا رسمية في البداية، خصوصًا إنك لسه صغيرة. عشان كده، مفيش أي تغيير هيحصل في حياتكِ العادية. هتكملي دراستكِ، وهتفضلي في بيت والدكِ. وهنظهر سوا في المناسبات الاجتماعية الضرورية بس عشان نثبت صحة 'الترتيبات'."

شعرت نيرفانا بالارتياح لهذا الترتيب الذي يبقيها بعيدة عنه جسديًا، لكن هذا الشعور سرعان ما تحول إلى غضب. لقد أُجبرت على الزواج من رجل غريب، ثم يُعاملها هذا الغريب بصفة "زميلة عمل" تحت رقابة.

– "رغبة والدي؟ ولا ده جزء من الضمانات اللي اشترطها في العقود الجديدة عشان يضمن مصالحه؟" لم تستطع السيطرة على سؤالها اللاذع. أرادت أن تكتشف مدى إدراك غيث لخفايا اللعبة.

ابتسم غيث ابتسامة باهتة، كشمس شتاء لا تمنح أي دفء.

– "ذكية. والدك راجل مبيسيبش حاجة للصدفة. طبعًا، شروط العقود كانت واضحة. أنا وأنتِ دلوقتي شركاء في إدارة جزء كبير من أصول العزبي، جنب إمبراطورية والدك اللي جاية. مفيش مجال لأي غلط، يا نيرفانا."

أغلق غيث عينيه لثوانٍ معدودة، وكأنه ينهي فقرة في اجتماع هام، ثم فتحهما وتابع بجدية بالغة:

– "المطلوب منكِ بسيط: تسمعي كلام والدكِ بالكامل، خاصة اللي ليه علاقة بالأوراق والوثائق اللي عطاها ليكٕ. متتصرفيش من دماغكِ، وماتتكلميش عن 'الترتيبات' دي مع أي حد، مهما كان."

هزت نيرفانا رأسها ببطء، وقد اختلط فيها الذهول بالاستفزاز. لم تعد تطيق هذه النبرة الآمرة، وكأنها تتلقى تعليمات عسكرية.

– "تمام يا غيث. هكون صريحة معاك زي ما أنت صريح معايا." قالتها بنبرة تحدٍّ، تحاول أن تتجاوز نظراته الباردة. "أنا موافقتش على الجواز ده، ومش عايزاه. لكن عارفة إن ماليش حق أرفض دلوقتي. عشان كده، أنا هلتزم بـ 'ترتيبات الشغل' دي، بس في المقابل، لازم أنت كمان تلتزم. أنا مش عروسة ماريونيت. متتوقعش مني أكون 'زوجة لطيفة' بتسمع الأوامر بس. إحنا شركاء عمل، والشريك لازم يحترم ذكاء الشريك التاني، حتى لو كان أصغر منه."

ظل غيث صامتًا للحظة، يتأملها بهدوء ملحوظ، وكأنه يقدر هذه الجرأة المفاجئة التي ظهرت فيها.

– "أنا بقّدر صراحتكِ. وأنا مطلبتش منكِ أبداً تكوني لعبة. في الحقيقة، ذكاءكِ هو الشيء الوحيد اللي خلاني أوافق على دمجكِ في الشراكة بالسرعة دي. أنتِ وريثة بجد يا نيرفانا، وده محتاج أكتر من مجرد اللطافة."

ثم أضاف، بنبرة أخيرة لا تقبل الجدل:

– "فقط خليكِ فاكرة، أي غلطة منكِ أو مني في الوقت الحرج ده، هتهز التحالف كله. والدي ووالدكِ مش مستعدين لأي هزيمة دلوقتي. خليكِ حذرة، وعينكِ مفتوحة. خصوصًا على 'ليلي'مرات أبوكِ و... عيلتها."

صُدمت نيرفانا من جملته الأخيرة. كيف عرف غيث بحقيقة ليلي، زوجة والدها وأخت مهاب؟

– "قصدك إيه بـ 'عيلتها'؟" سألت نيرفانا ببطء.

– "قصدي الحقيقة اللي والدكِ مش عايزكِ تعرفيها غير في الوقت المناسب. لما يجي الوقت، هتعرفي كل حاجة. لحد ما ده يحصل، متثقيش في أي حد... حتى أنا." قالها غيث، ثم أومأ برأسه بهدوء مصطنع: "أشوفك قريب يا نيرفانا."

أنهى المكالمة قبل أن تتاح لها فرصة الرد أو الاستفسار.

بقيت نيرفانا تحدّق في شاشة الهاتف الفارغة. غيث لم يتركها في حيرة فقط، بل زرع الشك في كل محيطها. "حقيقة لا يريد والدكِ أن تُكشف لكِ"، "خصوصًا على 'ليلي' وعائلتها".

كان خذلان أوس خذلانًا عاطفيًا، لكن ما يحدث الآن هو خيانة وجودية. أدركت نيرفانا أن العقد الذي وقعت عليه لم يكن مجرد زواج، بل كان تذكرة دخول إلى لعبة قذرة، حيث لا الأب ولا الزوج يمكن الوثوق بهما.
-------
💔 قلب السلطة 💔

تحمل اسمًا لم يألفه قلبه، اسمًا بدا له باهتًا كظلٍّ لا روح فيه، بلا لون ولا نكهة، كصفحةٍ مطويةٍ من كتاب لم يُقرأ: يقين.

ردَّد شامل  الاسم بين شفتيه ببرودٍ ساخر، كأنما يجترُّ صوتًا من غيابة الضجر:

– "يقين... يقين... يقين!"

رفع حاجبه الأيسر باستنكارٍ صامت، وسخريةٍ لاذعة راحت تتسلّل من ملامحه وتستقرّ في نبرته، بينما كان يقف قبالة مرآة الزينة في أناقةٍ لا تخلو من تكلف. رأسه يهتزّ يمنةً ويسرة، كأنما يطرد من عقله ثقل الاسم، أو كأنه يجلده سخريةً لا تنتهي.

كان يرتدي مئزر استحمامٍ أسود، بدا لامعًا تحت الضوء كقطعة مخمليةٍ لفها الليل حول خصره، فيما انشغل يدلك فروة رأسه بمستحضرٍ فاخِرٍ للعناية، تغلغل بين خصلاته كعطرٍ خفيٍّ من عناية مترفة.

ثم جلس بعد ذلك بهدوءٍ محسوب، وأخذ يقلم أظافره بعنايةٍ مدهشة، يحدّق في أطراف أصابعه كفنانٍ ينقح لوحته الأخيرة، وكأن كل تفصيلة في مظهره كانت تنتمي إلى طقوس يومية لا يُمكن الإخلال بها، حتى في لحظة استخفاف أو عبث لغوي.

قال ساخراً، وقد اختلطت تهكماته بنبرة خفيفةٍ من المشاكسة:

– "شخصيتك غريبة  بجد."

ثم ابتسم ابتسامة جانبية، وتابع بلمحة من مكرٍ طفولي:

– "شخصيتها متفرقش كتير عن اخوها و الاعيبه 
قالها وضحكته تتقافز في الفراغ، ملونةً بهالة من الطرافة واللامبالاة، كأنما أراد أن يُخفي بها شيئًا أعمق، أو أن يُظهر بها ما لا يُقال.

💔 قلب السلطة 💔
كان النعاس لا يزال يغلف عينيه بضبابٍ ثقيل حين اخترق صوتٌ أنثوي الباب.

صرخ شامل بصوته الأجشّ، وشفاهه بالكاد تنفصل عن بعضها:

– "ميييــن؟!"

جاءه الردّ رقيقًا، أنثويًّا، يحمل نبرة يعرفها جيدًا، نغمة واحدة كانت كفيلة بأن تفتح له باب الذاكرة:

– "افتح يا رووحي..."

بالطبع، لم تكن إلا يقين.

غمغم شامل وهو يزفر في ضيق، وأطلق سُبة خافتة لا تكاد تُسمع، ثم ما لبث أن ابتسم ابتسامة صغيرة وهو يفتح الباب، وقد حاول أن يُخفي تقلباته المتناقضة:

– "يقين؟ 

ترددت نبرة خفيفة من الحشرجة في صوته، كأن النوم لا يزال يُمسك بتلابيبه، أو أن شيئًا في داخله لم يكن على ما يرام.

ابتسمت يقين بخفة، ثم دفعت جسده إلى الداخل براحة كفّيها، وأغلقت الباب برفق بقدمها. اقتربت منه وهمست بدلالٍ صادق:

– "وحشتني أوووي يا شمول... تصدق؟ لولا إنك حبيبي، وإنّي عارفة إن رائد ضاغطك شغل، ما كنتش لا جيتلك ولا حتى كلمتك أبدًا."خصوصا بعد دفاعك عن نيرفانا و اتهامك ليا بخطفها .

ضمّها شامل إلى صدره بذراعيه، ولفّهما حول خصرها برفق، ثم همس في أذنها:

– ... أنا مقدرش على زعلك، وحياتك عندي كنت سهران طول الليل بفكر فيكي... إنتي مش شايفة الساعة كام؟!" و بعدين انا مش اتهمت انا نقلت لك كلام ادم عنك .

وأشار بإصبعه إلى ساعة الحائط التي كانت تُشير إلى الثالثة عصرًا، في حركة استعراضية أقرب إلى الدلال منها إلى التوضيح.

ضحكت يقين، وهزّت رأسها نصف تصديق:

– "ياسلام! كنت سهران بتفكر فيا؟ طيب ماشي، هصدقك... بس ليه ما اتصلتش بيا بقى يا أستاذ، مدام مشتاقلي؟!" و مصدقني؟

رفع شامل حاجبيه وابتسم ابتسامة خبيثة تُضمر ما لا تقول:

– "عشان كنت متأكد إني أول ما أفتح عيني هبص ألاقيكِ قدامي... واديكي جيتي أهو، 

شدّها إليه، ثم طبع قبلةً دافئة على عنقها ، جعلها تضحك بخفة ودفء:

– "خلاص كده... سجّدتني وصدّقتك! طيب إوعى كدة  لما أعملك فطار... ولا فطار إيه؟! ده بقى غدا يا خويا."

ابتعد عنها قليلًا وهو لا يزال يبتسم، ثم قال بصوتٍ خافت:

– "أوك، حضّريلنا أي حاجة حلوة كده، لحد ما آخد شاور وارجعلك."

ردّت بحبّ صادق:

– "ما تتأخّرش عليا يا حبيبي..."

غمزها بخفة وهو يسير نحو غرفته:

– "جايلك على طول ... أنا أستغنى؟!"

ثم مضى وهو يتثاءب، كأن النعاس ما زال يسحب قدميه بخدر.

أما يقين، فمضت نحو المطبخ بخطى رشيقة، وقد غمرها إحساس بالسكينة.

كان المطبخ بتصميم أمريكي أنيق، مفتوح على غرفة المعيشة بألوان دافئة تبعث على الراحة. أعدّت الطاولة الصغيرة، ثم انهمكت في إعداد كوبين من القهوة، وضعت عليهما القليل من القرفة كما يحب، ثم رتبت الساندويتشات في طبقٍ أبيض مزخرف بالزهور الزرقاء.

جلست تنتظره، وعيناها تتأملان المكان الذي بات مألوفًا كقلبها، كأنها تحفظ كل زاوية فيه عن ظهر حب.

جاء شامل بعد لحظات، وقد وضع منشفة صغيرة حول عنقه، وراح يفرك خصلات شعره بمنشفة أخرى، قال وهو يشمّ رائحة القهوة:

– "ريحة القهوة بتاعتك عملتلي دماغ من وأنا جوه 

ناولتْه الكوب بابتسامة حبّ لا تُخفى:

– "تشربها بالهنا يا روحي... اتفضل."

جلس أمامها، والتقط ساندويتشًا من الطبق، وبدأ يأكل بنهم:

– "قولتي لرائد إنك جاية يا يقين؟"

نظرت إليه باستنكار، وقالت بجديّة:

– "هو أنا هبلة؟ مع انك  بقيت خطيبي دلوقتي وهو  مالوش عندي حاجة!"

تنهّد شامل بلهجة مُعاتبة:

– "لأ يا حبيبتي... لازم نعمله حساب برضه. متنسيش إنه أخوكي، والمفروض صاحبي."

أجابت بسخرية هادئة:

– "المفروض؟! طب ما إنت صاحبه فعلًا..."

ابتسم شامل بتهكم، وقال بنبرة ساخرة:

– "ست سنين مغفّل وعامل علاقة مع أخته، وبعد كل ده صاحبه؟!"

تضايقت يقين، ورفعت صوتها قليلًا:

– "إنت جاي تحاسبنا على حبنا دلوقتي؟ بعد ما اتخطبنا رسمي يا شامل؟!"

مدّ يده فوق الطاولة وربت على يدها بلطف:

– "إيه يا حبيبتي... إنتي قفشتي كده ليه؟ أنا ما قصدش. أنا بس شايف إننا نراعي مشاعره، ونفهمه إننا بنحترمه. لأني واثق إنه ذكي جدًا وصعب حد يضحك عليه."

ضحكت يقين بسخرية مُبطنة، وقالت:

– "لأ إطمن... هو أكيد مش مركز مع أي حد الأيام دي... غير بنته. غالبًا مشغول بيها لشوشته."

عقد شامل حاجبيه في قلق:

– "ليه؟ إيه اللي حصل تاني؟"

تنهدت يقين، ورفعت حاجبيها:

– "أبداً يا سيدي، إمبارح قبل ما أنام لقيت رائد داخل عليا بيقول: نيرفانا سابت أوس... وما تفتحيش معاها الموضوع يا يقين."

اتسعت عينا شامل بدهشة، وقال بانفعال:

– "إيه؟! سابته؟! إزاي وليه؟ إحكيلي يا يقين!"

رفعت يقين يدها متظاهرة بالهدوء:

– "بالراحة يا سيدي، ملهوف على إيه؟ هحكيلك أهو... اسمع يا بيه!" هي مقالتش لابوها ليه بس انا عرفت و هي بتكلم صحبتها حور أن الزفت ادم فضحها قدام أوس.
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜 

دقّ الباب في تلك اللحظة  في منزل رائد و في غرفته تحديدا على مهلٍ محسوب، كأن الطارق يخشى أن يوقظ خيط الهدوء الذي أحاط الغرفة منذ لحظات. رفع رائد رأسه عن ليلى من فوره، وهدأت يده التي كانت تمسح على شعرها بحنان غير معتاد، ثم قال بصوت ثابت يعرفه كل من في البيت:

— "اتفضل."

انفتح الباب لتطلّ غالية، مترددة، كأنها لا تزال تحاول فهم التغيّر المفاجئ في جوّ البيت. لم تستوعب بعد أنّ "البيه" الذي اعتادوا شدّته وقسوته جلس إلى جوار زوجته يُطعمها بيده، وعليه ملامح لم ترها منه منذ سنوات… ملامح إنسان، لا سلطان.

وقفت عند العتبة، ترتّب طرحتها بخجل وتوتر:

— "سلامتك يا باشا… أنا بس جاية أقول لحضرتك إن في حد تحت مستني."

لم يلتفت إليها تمامًا، وظلّ نصف تركيزه على ليلى، كأنّ وجودها أولى من أي طارق:

— "حد مين؟"

ترددت لحظة تبحث في ذاكرتها، ثم قالت:

— "اسمه غيث… غيث أسر عز الدين  العزبي."

تجمّد الهواء.
وشهقت ليلى بصمت، وانكمشت أصابعها فوق طرف الغطاء كأن الاسم جرحًا قديمًا عاد ينزّ فجأة.

رائد وحده بدا الأكثر ثباتًا… لكن الثبات كان ستارًا خفيفًا يُخفي خلفه ما اشتعل في صدره لحظة سماع كلمة أسر.

وضع الصحن جانبًا بوقار لم يُخفِ حدّة الضوء التي مرّت في عينيه، ونهض واقفًا في هدوء يحذر من خلفه عاصفة:

— "يقين هانم فين؟"

ردّت غالية بسرعة، وكأن السؤال أعادها إلى وظيفتها:

— "خرجت من شوية يا باشا… يمكن  من ساعة كده. ماقالتش رايحة فين."

كان ردّها متناسقًا تمامًا مع ما حدث قبل قليل:
يقين تركت البيت حيث  زيارتها لشامل.

تابع رائد بأسلوبه الحاسم:

— "ونيرفانا؟"

أجابت فورًا:

— "في أوضتها من الصبح، يا باشا… ما نزلتش خالص."

أومأ رائد بثقل، ثم التفت إلى ليلى. اقترب منها ببطء، كأنه يستعيد هدوءه من بين أنفاسها، وانحنى عليها يلامس جبينها بأنامله:
قائلا 


تعليقات