رواية وليتني لم التفت الفصل الثالث بقلم الاء محمد حجازي
هتقدري تحضّري شبكة صاحبة طفولتك…
على حبيب عمرك؟
الكلمات كسرت جواها… لكنها رفعت راسها بالعافية وهي بتسمع دقات قلبها تنط من صدرها:
أيوه… هروح.
عشان… لما أشوفهم مع بعض… الصورة تفضل لازقة في دماغي…
وأعرف إني مش ليه.
ولما أسيب المكان… وأفتكره...
أفتكره وهو بيلبس رحمة الشبكة…
وأعرف… وأقتنع…
إنه مش نصيبي.
كانت بتحارب دموعها… لكن الكلمات كانت تقيلة لدرجة إنها ما قدرتش تمنع صوتها من الارتعاش.
– أنا لازم أنسى يا بابا…
ماقدّاميش اختيار تاني…
ولو ما عملتش كده…
قلبي هيفضل معلق بيه لحد ما يدوّبني…
ولما خلصت كلامها…
انهارت.
بكت…
زي اللي بيغسل وجع عمره كله.
وأبوها… فضل واقف جنبها، مش قادر يمنعها… بس قادر يحتويها.
----------------------------
كان يوم الخميس…
اليوم اللي إستبرق كانت مستنياه بخوف مش بشغف، بقلق مش بفرح.
قامت من النوم وهي بتحاول تثبت لنفسها إنها قدّها، وإنها هتروح وتبقى أقوى من قلبها… حتى لو قلبها نفسه مش معاها.
دخلت الأوضة وبدأت تجهّز.
اختارت فستان واسع، محتشم، لونه هادي…
حاجة تناسب شخصيتها، وتناسب تربيتها، وتناسب اللي هي شايفاه صح.
لبست طرحه شيك بسيطة، وعملت ميكب سمبل جدًا… مجرد حاجة تخلي شكلها مرتب من غير ما تلفت نظر حد.
كانت واقفة قدام المراية، بتتأمل شكلها اللي يبدو ثابت… لكن جواها كانت عاصفة.
كانت بتضحك على نفسها:
هو أنا بجهّز نفسي عشان أشوف اللي بحبه بيلبس الشبكة لصاحبتي؟
هو ده قدر؟ ولا عقاب؟ ولا درس؟ ولا نهايات ربنا بيختارها لنا؟
أخدت نفس طويل…
وشالت شنطتها…
ونزلت.
وصلت بيت رحمة.
أول ما دخلت… اتصدمت.
رحمة كانت واقفة قدام المراية بفستان ضيق جدًا…
ضيق لدرجة غير لائقة، لدرجة ملفتة،
صاك بطريقة ما كانش ليها علاقة لا بالذوق ولا بالاحترام.
ميكبها كان تقيل… أوفر… الألوان فاقعة، وطلعة من الطرحة شعرها نازل على كتافها ورقبتها باينة كلها.
إستبرق وقفت قدامها مش مستوعبة…
ده يوم الشبكة؟ ولا يوم فرح؟ ولا يوم تصوير فيديو كليب؟
كانت مستغربة…و مش مستوعبة.
مش دي رحمة اللي تعرفها…
مش دي اللي طول عمرها بتقول أنا بحب الحشمة!
رحمة أول ما شافتها رفعت حاجبها باستفزاز:
وقالت لها بنبرة فيها شيء مش مفهوم:
– هو في إيه يا إستبرق؟
هو إنتِ لابسة كده… عشان تضغطي عليّا يوم شبكتي؟
إستبرق وقتها استغربت…
هي؟ تضغط؟
لسه هترد…
دخلت أم زين.
كانت داخلة بهيبة… وطيبة… وحدّة في نفس الوقت.
سلمت على رحمة الأول، وسلمت كأنها بتسلم لمجاملات العيلة… والسلام العادي، وتغاضت عن لبسها، وبعدين لفت على استبرق…
وقعدت تتأملها من فوق لتحت، وابتسمت بحنان غريب:
– إيه الجمال ده يا حبيبتي؟
قمر ما شاء الله.
ردت إستبرق بتوتر وابتسامة خفيفة:
– تسلمي يا طنط…
وأكيد مش هكون في جمال رحمة.
وإستبرق حسّت إن قلبها وقع معاها.
خدت نفسها وخرجت من أوضة رحمة… راحت للمعازيم بره، تهرب من الجو اللي مالوش ريحة فرح.
المعازيم كانوا قاعدين… الضحك عالي… الزينة … والناس مستنية.
وبعد دقائق…
رحمة خرجت من الأوضة، ماشية بثقة زايدة، رايحة على الكوشة اللي جنب زين.
إستبرق كانت قريبة…
وشافت النظرة اللي محدش غيرها كان هيفهمها.
زين أول ما شاف رحمة… اتكهرب.
وشه اتغير…
ملامحه شدت…
كان واضح إنه منضايق جدًا.
لما قربت منه…
قال لها بصوت واطي لكن نبرة غضبه كانت باينة جدًا:
– إيه اللي إنتِ لابساه ده يا رحمة؟
ده منظر؟ ده يوم شبكتنا؟
رحمة بصه لإستبرق بنظرة قرف وكأن حد بيحرمها من لحظة انتصار:
– هو في إيه يا زين؟
مش عاجبك؟
إستبرق كانت واقفة بعيد، بتشوف كل حاجة…
استبرق استغربت.
دي أول مرة تشوف رحمة بالشكل ده…
وأول مرة تشوف زين منفعل بالشكل ده.
بعد ثواني…
زين رفع عينه… شاف إستبرق واقفة.
فضل يبصلها ثواني…
وبعدين قال بصوت منخفض بس واصل لها:
– انتي مش شايفة صاحبتك لابسة إزاي؟
طب ما تلبسي زيها!
استبرق الكلمة نزلت على قلبها وجابت وجع زيادة.
كانت واقفة بعيد…
لكن شايفة المشهد كله…
شايفة غضب زين…
شايفة لا مبالاة رحمة…
شايفة بداية حاجة…
ونهاية حاجة تانية.
رحمة بصتله بثبات:
أنا مليش دعوة بحد.
كل واحد حرّ في نفسه.
وبعدين رحمة قربت، وقالت بدلع مقرف:
وبعدين يا زين… النهارده شبكتنا.
تقوم تنكد عليا كده.
ضحك… ضحكة مش طالعة من قلبه…
وقعد جنبها، يحاول يهزر ويضحك زي أي عريس.
جِه وقت تلبيس الذهب…
الدنيا زحمة… كاميرات… زغاريط…
وضغط…
قلب استبرق فضل يضرب… يوجع… يحرق.
حسّت إن رجليها مش شايلة جسمها…
قامت بهدوء وسط الزحمة…
وخرجت للبلكونة.
أول ما بدأوا يلبسوا الدهب…
كانت مش قادرة تتنفس، والزحمة جوا والكوشة والدوشة كلها كانت بتضغط على قلبها.
وقفت تبص قدمها، بتحاول تهدي الوجع اللي جوّاها… بس الوجع كان أقوى، والليلة كلها كانت شكة دبوس في قلبها.
وهي واقفة جوا شرودها…
سمعت صوت راجل وراها، هادي وواثق:
على فكرة… أنا برضه ما بحبش الدوشة.
شبهِك كده.
وقولت أطلع أشم شوية هوا.
استبرق اتشدّت فجأة…
لفّت ببطء، ولما عينها وقعت عليه…
اتجمّدت.
كان واقف قدّامها…
شاب طويل، وملامحه هادية، احلي من كل الشباب اللي شافتهم في حياتها.
شعره مسرح بسيط، قميصه أبيض، وريحة بارفانه معديّة الهوا.
نضارة… هيبة… جمال مش بصري بس، جمال رايق.
فضلت واقفة قدّامه متنحّة…
مش مستوعبة إنه بيكلمها أصلاً.
قالت بتلجلج:
– بعد إذنك… حضرتك بتكلّمني؟
ابتسم من غير ما يبين ضحكته كلها:
– ما هو مفيش حد واقف هنا غيرك.
مين تاني أكلمه؟ الطوب؟
شهقت إستبرق بخضة:
– هو حضرتك أهبل؟ ولا بتستهبل؟
ضحك… ضحكة قصيرة وواثقة:
– بستهبل، للأمانة.
أنا أصلاً ما أعرفش حد هنا…
طلعت برا أشم هوا، لقيت بنت جميلة واقفة…
قلت أعرّف نفسي، بس حتى في دي فاشل.
إستبرق بصّت له بنظرة ما بين استغراب وكسوف…
ابتسامة صغيرة غصب عنها طلعت…
كأنها أول ابتسامة بجد من أيام.
بصّ لها وقال:
– اسمك إيه؟
استبرق اتوترت…
وبدل ما ترد، خدت شنطتها الصغيرة وقالت بخفة:
– هدخل جوه…
ومشيت.
مشيت قبل ما قلبها يخونها، قبل ما نظراته تشدّها زيادة…
قبل ما تحس إنها لأول مرة من أيام…
اتنفست.
كانت لسه خارجة من البلكونة، بتحاول تلم نفسها، ومسحِت دمعة كانت هتهرب من عينها…
رجعت وسط الناس، بس قلبها كان لسه واقف هناك… عند المنظر اللي هربت منه.
خطوات بطيئة… بتحاول تداري توترها، لحد ما لقت أم زين واقفة جنب المعازيم.
ابتسمت لها الابتسامة اللي بتتعمل بالعافية:
– مساء الخير يا طنط.
قربت أم زين منها بحنان غريب كأنها أمها فعلًا، وابتدت تضحك وتمسك إيدها:
– تعالي… تعالي يا حبيبتي اقفي معايا، انتي دمّك خفيف وانا بحبك أوي.
وقفت استبرق جنبها، حاولت تهزر معاها شوية تهريج خفيف كده، تعوّض بيه وجع القلب اللي واقف جواها زي شوكة.
الحزن كان لسه ظاهر في عيونها… بس بتحاول تخبّيه بالهزار.
أم زين ضحكت وقالت فجأة كده من غير مقدمات:
– على فكرة… إنتي عرفتي ابني زين…
استني بس… أعرّفِك على يعقوب.
استبرق لسه بتلف بوشها بابتسامة صغيرة…
وبمجرد ما بصّت…
اتصدمت.
ده هو.
هو نفس الشخص اللي كان واقف في البلكونة.
نفس الضحكة اللي كسرت شرودها…
نفسه بالظبط.
ضحك بخفّة، ورفع حاجبه وهو بيقول لأمه:
– مكتوبلي أعكسها من الصبح ولا إيه؟!
وبعدين بص لاستبرق، خطوة صغيرة لقدّام…
وصوته بقى دافي، ساخر… بس فيه حاجة لطيفة تخوّف:
– مش تعرفيني يا أمي على القمر ده؟
استبرق وشها احمر، ومش عارفة ترد…
أم زين ضحكت وقالت:
– دي إستبرق… صاحبة رحمة.
ضحك يعقوب ضحكة كاملة… وهز راسه كأنه لسه مصدوم من اللي سامعه:
– ده إيه؟
بقا الملاك ده صاحبة إبليس وبئس المصير دي؟!
قرب منها شوية…
نظرة فيها هزار بس جوّاها احترام:
– والله حرام…
أخاف عليكي يا قمر تكوني ماشية مع حد قلبه اسود كده.
استبرق اتلجمت…
مش عارفة تضحك ولا تزعّق ولا تمشي.
كان قدامها شخص بيهزر، بس كلامه لمس حتة متكوية جواها…
حتة موجوعة بقالها أيام.
وقفت قصاده… وقلبها لأول مرة من فترة…
ينبض… بس مش وجع.
نبضة مختلفة…
خفيفة، ناعمة…
نبضة لحاجة جديدة…
حاجة مش فاهمة هي إيه.
لكن اللي عارفاه…
إن اللحظة دي هتغيّر كتير.
---------------------------
وأخيرًا…
يوم الشبكة عدى.
عدى… وخلّف وراه وجع يكفي سنة كاملة.
استبرق رجعت بيتها بخطوات تقيلة، كأن كل خطوة كانت بتسحب معاها ذكرى من اللي شافته جوّه.
كانت لسه شايفة قدامها ضحكة رحمة، زين واقف جنبها، الدهب بيتعلق في إيديها، الناس بتزغرط…
وهي؟
هي كانت واقفة وسط الزحمة، بس قلبها واقف لوحده… في وادي تاني خالص.
وقفت قدام مرايتها في الأوضة بعد ما خلعت طرحتها، وبصت لنفسها.
وشّها باين عليه التعب… بس مش تعب جسم.
ده تعب روح.
تمسح دمعة وتحاول تهدي نفسها…
وتقول بينّها وبين نفسها:
أنا لازم أسافر…
لازم أبعد…
لازم أروح عند خوالي شوية…
يمكن الدنيا تروق… يمكن أنسى.
كررت الفكرة كذا مرة…
كأنها بتحاول تقنع نفسها إن الهروب حل، رغم إن قلبها كان عارف إن الزعل بيمشي معاها حتى لو ركبت طيارة.
وهي لسه بتجهز شنطتها…
افتكرت إنها لازم تعدّي على رحمة قبل ما تسافر.
مهما حصل… دي صاحبة طفولتها.
ولازم تودّعها قبل ما تبعد.
لبست طرحها بسرعة، وخدت نفسها ونزلت.
وقفت قدام باب شقتهم، قلبها بيدق…
لسه هتخبط،و إيدها مرفوعة…
وفجأة…سمعت اللي صدمها؟
