رواية عشق لا يضاهي الفصل الثلاثمائة والتاسع والعشرون
«ما الأمر؟» سألت كوثر وقد ارتسمت على ملامحها دهشة حائرة.
أجابتها سيرين بصوت خافت يحمل ثقل السنوات:
«إنها إرادة والدي.»
فوالدها قبل أن يودّع الدنيا كان قد صاغ وصية إضافية على انفراد إذ راوده خوف عميق من أن تؤول الشركة إلى ابنه الذي اعتاد التبذير والاستهتار وفي تلك الوصية خصّ سيرين بجزءٍ ضخم من ثروته عشرة مليارات دولار كاملة ثم أضاف بندًا آخر يمنحها الحق في الاستحواذ على كامل الميراث بما فيه مجموعة تهامي إن رغبت في ذلك.
ظلت سيرين تخفي تلك الوصية طيلة السنوات الماضية تحفظها في قلبها كما تحفظ جرحًا لا تريد كشفه وقد كانت على علم أنّ ظهور ما بجعبتها سيجعل وصية سارة بلا قيمة وسيقلب الموازين رأسًا على عقب… وحين تخرّجت لم تكن تعرف شيئًا عن إدارة الشركات ولم ترغب في انتزاع أصول اعتاد عليها سارة وتامر ثم إنّ الوصية مهما كان ثقلها لن تجد اعترافًا رسميًا ما لم يكن وراءها من يقوّي موقفها… غير أنّ الزمن علّمها أكثر مما توقّعت؛ فهي لم تعد تلك الفتاة الوديعة التي تخشى المواجهة وتخجل من النزاع… تغيّرت… نضجت… وصارت تعرف تمامًا كيف تقف في وجه من يحاول دفعها إلى الحافة ولو أنّ سارة وأمثالها حاولوا خنقها بضغط أو تهديد الآن فلن ترددت سيرين في مواجهتهم حتى النفس الأخير.
أما كوثر التي كانت تصغي لكل كلمة بعيون متسعة قالت بدهشة صادقة:
«أفهم الآن… ولكن—أليست مجموعة تهامي قد اختفت؟»
قالت سيرين وعيناها تحملان توترًا خفيًّا:
«ماذا لو رفعتُ دعوى عليهما؟»
أجابها زكريّا وكان أقربهم إلى التقاط الفكرة:
«وقتها سيُجبران على إعادة كل ما أخذاه… وإن لم يفعلا فستكون العواقب ثقيلة عليهما بلا شك.»
ابتسمت سيرين وربتت على رأسه برفقٍ أضفى على الموقف دفئًا مفاجئًا.
«لا أريد استرجاع شيء يا زكريّا… أريد فقط أن ألوّح بما يخيفهما ليعودا إلى صوابهما.»
كانت كوثر تتابع الحوار ولشدّة إعجابها بسرعة بديهة الصبي قرصت خدّه بمداعبة فقفز زكريّا متضايقًا يبتعد عنها بخفة طفل يحاول الحفاظ على كبريائه الصغير… وما إن بدأ الاثنان يتماحكان حتى قطع رنين جرس الباب تلك اللحظة العابثة.
حدّقت كوثر نحو المدخل باستغراب قائلة:
«لم نطلب أي توصيل… من تراه يكون؟ سأذهب لأرى.»
ارتدت كوثر نعالها بخطوات مسرعة واقتربت من الباب قبل أن تميل لتنظر من خلال الثقب الصغير… وهناك عند العتبة وقفت امرأة تخفي ملامحها بكمامة وقبعة عريضة.
همهمت كوثر خلف الباب بحذر دون أن تفتحه بتحية متردّدة:
«مرحبًا؟»
وما إن نزعت الزائرة كمامتها حتى شهقت كوثر بدهشة خالصة.
إنها… دينا!
اضطرّت دينا إلى السؤال مرارًا متنقّلة بين العناوين والوجوه حتى اهتدت أخيرًا إلى الخبر الذي تبحث عنه: سيرين في المدينة، تقيم مؤقتًا مع كوثر في شقّة قديمة لذا استغرقت دينا وقتاً طويلًا في العثور عليها، شقّة اختيرت بعناية لأنها بعيدة عن العيون ولأن سيرين كانت تخشى أن يلتقط أحد أثرها.
وحين ظهرت دينا عند الباب شهقت كوثر فجأة:
«دينا؟!»
لكنها لم تفتح فورًا؛ بل ارتدّت مسرعة إلى غرفة المعيشة حيث كانت سيرين تجلس ومن ثم قالت لها وهي ما تزال تلهث من المفاجأة:
«دينا واقفة عند الباب.»
انعقد حاجبا سيرين في قلقٍ واضح وتمتمت بنبرة امتزج فيها الاستغراب بالحذر:
«وما الذي تفعله هنا؟»
منذ تلك الفضيحة التي اجتاحت العالم قبل أشهر—الفيديو الذي حطّم حياة دينا في لحظة—لم يصل سيرين ولا كوثر أي خبر عنها حتى اعتقدتا أنها اختفت أو غادرت البلاد.
قالت كوثر وهي تحاول فهم الموقف:
«لا أعلم… سأخرج وأسألها.»
اكتفت سيرين بإيماءة قصيرة وقالت بهدوء يحمل توجسًا واضحًا:
«حسنًا… اذهبي.»
في تلك اللحظة تسرّب صوت زكريّا ببراءة الطفولة وهو يقول متظاهراً عدم المعرفة:
«أمّي أهي المرأة التي كانت تتنمّر عليكِ؟»
التفتت إليه سيرين وقد ارتسمت على وجهها دهشة صامتة.
«ومن الذي أخبرك بهذا؟» قالت في حيرة فهي لم تذكر اسم دينا أمامه قطّ.
توقّف زكريّا لحظة كأنّ الكلمات تزلّ في حلقه قبل أن يجد لها صيغة مناسبة:
«آه… كانت كوثر قد قالت لي ذلك يوم كانت ثملة… وأخبرتني أنّ دينا امرأة سيّئة تتنمّر عليكِ.»
تنفّست سيرين بعمق ثم جذبت الصغير إلى حضنها في عناقٍ مطمئن.
«لا تقلق يا صغيري… لم يعد في العالم من يستطيع إيذائي الآن.»
وما إن فرغت من كلامها حتى عادت كوثر إلى الغرفة وملامحها لا تزال تحمل أثر المفاجأة قالت لسيرين:
«دينا جاءت لتعتذر وتريد مقابلتك.»
سكتت سيرين لحظة ثم التفتت نحو زكريّا وقالت برفق:
«اذهب إلى غرفتك الآن يا عزيزي.»
انصاع زكريّا لأمرها ومشى بخطوات متريّثة نحو غرفته وهو يلتفت قليلاً إلى الخلف.
وفي تلك الأثناء دخلت دينا التي توقّفت عند العتبة وعيناها تتبعان الطفل الخارج من الغرفة… كانت ملامحه مألوفة كأنها رأت ذلك الوجه الصغير من قبل لكن الذاكرة لم تُسعفها فورًا باستعادة موضع تلك المعرفة.
ارتدّ نظر دينا إلى سيرين من جديد… كانت سيرين جالسة على الأريكة بثباتٍ ووقار تحيط بها سكينة تشبه الهالة؛ هدوء راسخ، وكرامة لا تخطئها العين… ذلك الحضور وحده جعل دينا تشعر بثقل المهمة التي جاءت من أجلها وكأن الركوع أمام سيرين بات أثقل من قدرتها على الاحتمال.
وفي خضمّ ارتباكها، اخترق أذنَيها صوت جاكي سكرتيرة جاسر العصبية يتردد عبر سماعات الهاتف:
«دينا، ليس لديّ متّسع من الوقت لمتابعتك… إن كنتِ ستركعين فافعلي ذلك دون إطالة!»
