رواية عشق لا يضاهي الفصل الثلاثمائة والعشرون 320 بقلم اسماء حميدة


  رواية عشق لا يضاهي الفصل الثلاثمائة والعشرون 


لم تكن عودةُ كارم إلى المدينة بوازع الحنين إلى سيرين وحده بل كان مدفوعًا برغبةٍ دفينة في استعادة ما سُلب منه ذات يوم فالمشروع الذي انتزعه منه ظافر لم يكن مجرد صفقةٍ تجارية بل جزءًا من كبريائه الذي أُهين ظلمًا.

كان يعلم تمام العلم أن الرئيس التنفيذي الحالي لمجموعة “نصران” ما هو إلا محتال بثوب رجل أعمال لذلك لم يكن يشعر بالقلق إطلاقًا… كان واثقًا بل مطمئنًا إلى أن الوقت سيكشف الحقائق كما يُجلي الصباحُ ظلمة الليل.

أما ماهر فلم يكن يتوقع أن يتحدث كارم بذلك الغرور المستفز… ومع أن ظافر فقد ذاكرته فلم يجرؤ ماهر على إخباره بما قاله كارم خشية أن يُثير في نفسه ما حاول الجميع إخفاءه عنه ومع ذلك كان كارم مصممًا على أن يجعل ظافر يرى الحقيقة، لا بعينيه، بل ببصيرته.

في تلك الليلة كان ظافر جالسًا أمام حاسوبه المجهّز بطريقة برايل يعمل بصمتٍ اعتاده منذ أن فقد بصره… كانت عقارب الساعة تشير إلى الثامنة مساءً وسيرين لم تعد بعد… في العادة كان يسمع وقع خطواتها عند هذا الوقت لكن السكون طال والبيت بدونها بدا فارغًا أكثر من المعتاد.

رنّ هاتفه فجأة فمدّ يده إليه بحذرٍ وأجاب فجاءه صوت مسجَّل، عميق النبرة:

“سيد ظافر، أنا كارم… أردت فقط أن أخبرك أن سيرين كانت معي اليوم وستعود متأخرة بعض الشيء.”

تجمّد وجه ظافر عند سماع الاسم وتسلّل الحزن إلى ملامحه الصارمة ثم أطفأ الجهاز وأغلق الحاسوب بعصبيةٍ صامتة إذ لم يعد قادرًا على التركيز فنهض متثاقلاً وخرج إلى الشرفة.

كان الثلج يتساقط بغزارة، يغطي الأرض بلونٍ أبيض بارد يشبه الفراغ الذي غمر صدره.

أخرج هاتفه المصمَّم خصيصًا للمكفوفين وتلمّس الأزرار حتى وجد رقمها — ذلك الرقم الذي حصل عليه سرًّا دون علمها… ضغط زر الاتصال والريح تلفح وجهه كصفعةٍ من السماء.

في الجهة الأخرى كانت سيرين تشق طريقها وسط العاصفة، الثلوج تتطاير أمام الزجاج وتخنق الرؤية لذا أبطأت القيادة خشية الانزلاق وقد غمرها التعب من يومٍ طويل قضته بين نوح وضجيج المشاعر ولم تكن تعلم أن في الجهة الأخرى من هذا الطريق يقف رجلٌ ينتظر صوتها أكثر مما ينتظر الدفء.

رنّ هاتف سيرين فجأة فمدّت يدها إليه دون أن تنظر إلى الشاشة وأجابت بصوتٍ متعب:

“مرحبًا؟”

جاءها صوت ظافر من الجهة الأخرى باردًا كهواء الشتاء الذي يملأ الخارج:

“أين أنتِ؟”

لم تلاحظ الجفاء في نبرته فأجابت ببساطة:

“أنا في طريقي إلى المنزل.”

لكن ما إن أنهت جملتها حتى انزلقت إطارات السيارة على الطريق المكسوّ بالثلج فاهتزّ جسدها بعنف واختلطت الرؤية أمام عينيها وانحرفت السيارة نحو المسار المعاكس ثم دوّى صوت اصطدامٍ قوي تلاه انفجار الوسائد الهوائية.

ارتطمت سيرين بالمقعد بقوة وشعرت بدوارٍ كاد يسلبها وعيها بينما سقط الهاتف من يدها وانزلق تحت المقعد فامتدّت نحوه عبثًا ولكن دون جدوى… لحسن الحظ كانت سرعتها منخفضة فلم تُصب بأذىٍ خطير وإن ظلّ جسدها يرتجف من أثر الصدمة.

تنفّست بعمق تحاول السيطرة على نفسها ثم أدارت المفتاح دون فائدة… المحرّك صامت، والبرد يزحف إلى أطرافها لذا لم يكن أمامها سوى تشغيل أضواء التحذير.

حاولت مجددًا الوصول إلى الهاتف لكن المقعد كان أضيق من أن يسمح لها بذلك غفتحت الباب بترددٍ ونسمات الثلج العاتية صفعت وجهها… خرجت ببطء تتلفّت حولها علّها تجد من يعينها.

في تلك الأثناء كان ظافر قد تجمّد في مكانه حين سمع صوت الاصطدام عبر الهاتف… نادى اسمها مرارًا لكن الخط صمت كقلبٍ توقف عن الخفقان… حاول الاتصال بها مجددًا مرّة تلو الأخرى دون جدوى.

كانت العاصفة الثلجية في ذروتها فخلت الشوارع من المارة ووقفت سيرين في العراء ترتجف من شدّة البرد والثلوج تتراكم على كتفيها… طال انتظارها ولم تلمح أي سيارة تمرّ.

في تلك اللحظة أدركت كم كانت واثقة أكثر من اللازم منذ عودتها إلى مقاطعة “سان” كانت تظنّ أن الخطر لم يعد يلاحقها فاستغنت عن حارسها رامي قائلةً إنها قادرة على حماية نفسها لكن الليلة كانت قاسية لا تسمع فيها سوى صفير الريح وارتجاف أنفاسها فلم يكن أمامها خيار سوى أن تسير وحدها عائدةً إلى المنزل تاركةً السيارة خلفها حتى يهدأ الثلج ومع أول خيوط الصباح سترسل أحداً لسحبها.

كانت سيرين تمضي بخطى واهنة وسط العاصفة تسحب قدميها المتجمدتين كمن يجرّ أثقالًا من الجليد… الطريق خالٍ تمامًا، لا منازل ولا أنوار، فقط بياضٌ لا نهاية له يبتلع كل ما حولها… تذكّرت أن أمامها ميلين على الأقل قبل أن تبلغ منزلها فتنهدت بضعف وأكملت المسير.

ظل البرد ينهش جسدها بلا رحمة… أخذت حواسها تخبو واحدةً تلو الأخرى؛ صار سمعها باهتًا كأن الريح ابتلعته وبدأت أطرافها تفقد الإحساس شيئًا فشيئًا… بعد دقائق طويلة من الصراع مع الرياح والثلوج لم تعد ترى سوى بياضٍ كثيف يُغشي بصرها… ارتجّ العالم من حولها وتمايل جسدها قبل أن تهوي على الثلج.

ظلت واعية بالكاد تنكمش حول نفسها وتحمي بطنها بيديها المرتجفتين قبل أن تحاول النهوض من جديد لكن قدميها رفضتا الطاعة وكأن البرد جمّد فيها الحياة همست بصوتٍ مبحوح:

“إنه… باردٌ جدًا…”

لم تكن تعلم أن خطواتٍ تقترب منها بثبات ولا أن ظافر كان يناديها في فزع يواجه العاصفة بعينين لا تبصران… لم تسمع صوته ولم تدرك حضوره إلا حين احتواها بين ذراعيه فجأة.

أفاقت للحظة على دفء عناقه ودهشت — كيف وجدها وهو لا يرى شيئًا؟ كان المنزل لا يزال بعيدًا ومع ذلك وصل إليها كما لو أن قلبه اهتدى إليها دون عيون.

تمتمت بشفتين مرتجفتين:

“أنا… أشعر بالبرد يا ظافر…”

وقبل أن تسأله كيف وصل غلبها الارتجاف فضمّها إلى صدره بقوة ورفعها عن الأرض يسير بها عائدًا إلى المنزل والثلج يتساقط فوقهما كستارٍ كثيف ومن ثم قال بصوتٍ خافتٍ يحمل اللوم والحنان معًا:

“لمَ تأخرتِ وأنتِ تعلمين قسوة هذا الطقس؟”

لم تسمع كلماته فقد كان الصقيع يسرق منها كل شيء… تشبثت بقميصه تُحاول عبثًا أن تبحث عن دفءٍ في جسده ومدّت يدها تحت سترته لتدفئها تهمس بصوتٍ واهن:

“الجو… بارد…”

لم يكن هناك خجلٌ أو تحفظ في تلك اللحظة؛ كان البرد أقوى من أي شعورٍ آخر فظلت ترتجف بين ذراعيه كعصفورٍ هزمه الشتاء.


تعليقات