رواية شظايا قلوب محترقة ( وكأنها لي الحياة ) الجزء الثانى الفصل الواحد والثلاثون 31 بقلم سيلا وليد


 رواية شظايا قلوب محترقة ( وكأنها لي الحياة ) الجزء الثانى الفصل الواحد والثلاثون 


 "اللهم استرنا فوق الارض وتحت الأرض ويوم العرض عليك"

العيونُ بالكلامِ نواطق، وآهٍ وآهٍ من عيناها...
تسرقان منّي اتزاني كلما التقت بنظرتها عيناي،
كأنَّ الكون يصمت ليُنصت لهما، وكأنَّ النجوم تُضيء لتغار من بريقهما.

فيهما وجعي وراحتي، ضياعي وملاذي،
فسبحان من أودع في نظرتها جمالًا يُربك كلَّ الحواس.

ولو أنّي خُلقتُ بغير قلبٍ... لأحببتها بعُمقِ الروح، وبصمتِ النبضات،
كأنَّ فيها شيئًا من المعجزة، وكأنَّ هواها قدرٌ لا يُستبدل.

أراها في العيون وإن أغمضتها، وفي السكون أسمع همسها،
فكيف الهربُ من حبٍّ يسكنني... حتى وإن لم أُخلق له؟

وصلت بعد دقائق إلى المشفى.
ترجَّلت من سيارتها تركض بجنون، لا ترى شيئًا ولا تسمع شيئًا سوى خفق قلبها الذي يكاد يتهشَّم بين ضلوعها.
لم تنتبه لكونها خرجت بملابسها البيتية، ولا لشَعرها المنسدل بلا ترتيب، فقط كانت تريد الوصول إليه، أن تراه، أن تتأكد أنَّه مازال هنا، أنَّه مازال يتنفس.

اندفعت إلى الداخل، تتنفس باضطرابٍ موجع، عيناها تجولان كالتائهة في ردهة المشفى تبحث عنه، تبحث عن أي وجهٍ يخبرها أنَّه بخير، عن أي صوت يعيد نبضها الذي يتباطأ وكأنَّه يستعدُّ للتوقُّف من جنون تفكيرها بأنَّه سيتركها، دارت بتيهٍ إلى أن رأت بلال يخرج من إحدى الغرف، هرولت تصيح باسمه بتقطُّع: 

_ بلال…
نادته بصوتٍ مخنوق، فالتفت إليها، وما إن التقت عيناها بعينيه حتى انفجرت الدموع رغمًا عنها، ركضت نحوه وهي تشهق:

_ فين يوسف؟
خرجت الكلمة من بين بكائها، بانتفاض قلبها.

اقترب منها بلال وضمَّها بحنان أخٍ لا يعرف كيف يطفئ هذا الألم، ربت بيدٍ على كتفها ويده الأخرى تسندها كي لا تنهار:

_اهدي، اهدي يا حبيبتي..هوَّ بخير، نايم دلوقتي، مفهوش حاجة خطيرة.

ابتعدت عنه بقوَّة، وكأنَّ الكلمات لم تكن كافية لتقنع قلبًا يتفطَّر على حبيب، أصبحت دموعها تنحدر بلا توقُّف، قالت بصوتٍ متقطِّع:

_عايزة أشوفه دلوقتي.

أشار بلال إلى الغرفة المجاورة،  واحتوى وجهها يطالعها بنظرةٍ تحمل رجاءً أن تتمالك نفسها، ولكنَّها لم تنتظر.

اندفعت تدفع الباب بكفَّيها المرتجفتين، بقلبٍ يصرخ أكثر ممَّا ينبض.

توقَّفت كأنَّ كلَّ شيءٍ تجمَّد، برودةٌ قاسية تتسلَّل إلى جسدها حتى ارتعشت أطرافها، لتطالعه بأعينٍ متَّسعة وقلبٍ يصرخ..خطت إليه وعيناها تحتضن جسده المسجَّى فوق الفراش بأنابيب معلَّقة بمحاليل تغذِّي وريده.

توقَّفت وشهقت بصوتٍ كأنَّها تنازع روحها، وخفقانُ قلبٍ يُذبح وهو واعٍ:

هل هذا هو؟
هل هذا حبيبها الذي كان يملأ الحياة ضجيجًا وضحكًا وعنادًا؟
هل هذا هو الذي كانت كلُّ نبضةٍ فيه وطنًا لها؟
يبدو الآن كمن تُرك معلَّقًا بين الحياة والموت

هزَّت رأسها نافيةً، وسالت دموعها ساخنةً حتى أشعلت خدَّيها.

اقتربت بخطواتٍ تتعثَّر بثقل الندم، كأنَّ الأرض تشدُّ قدميها عقابًا على كلِّ ماقالت..عن قسوة كلماتها التي كادت أن تودي بحياته، خطت بأنفاسها المتقطِّعة، وصدرها يعلو ويهبط، وعيناها لم تعودا تبكي بل تنزف، حتى اختفت وجنتيها.

وصلت إلى فراشه، لم تمدَّ يدها، لم تتفوَّه بحرف، حتى البكاء فقد جفَّ بعد الوصول إليه ورؤيته بتلك الحالة.

هوت بجسدها على ركبتيها عند رأسه، حينذ شعرت بأنَّ قوَّتها تبخَّرت دفعةً واحدة.
انحنت فوقه واحتضنته لا بيديها، بل بروحها.
دفنت وجهها عند عنقه، قرب نبضه… كأنَّها تستجديه أن يفتح عيناه لأجلها، علَّ نبضها يعود، دنت من أنفاسه، علَّها تحاول أن تربط حياتها بحياته، تمسِّد على خصلاته بحنان.

رَفَّ جفناه ببطء، ثم فتح عينيه وتمتم بصوتٍ متحشرج:
_ضي…أنا كويس.

ابتسامةٌ حزينة فوق فمها الغارق بالبكاء، لم تفكِّر..لم تسمح لعقلها بالتدخُّل، ألصقت شفتاها بشفتيه، تلثمه بدموعها وارتجافها، تحتضنه بقوَّةٍ كأنَّها تريد إخفائه داخل صدرها.

أحاطها بذراعيه رغم ضعفه..وكأنَّ كلَّ ماقالته لا يعنيه يكفي أنَّها هنا.

دخل إلياس يلهث، وخلفه أرسلان، بينما توقَّف بلال عند المدخل عاجزًا عن الدخول..ورغم وجودهم جميعًا…
لم تبتعد..كانت تبكي فقط، تبكي بوجعٍ وكأنَّه فقد حياته. 

هنا رفع يوسف ذراعيه أكثر، يحيط عنقها يقرِّبها إلى أنفاسه:
_حبيبتى اهدي.
ابتعدت قليلًا فقط لتضع جبينها على جبينه، وأنفاسهما تتداخل، بدموعهما التي لم تنقطع.

همست بصوتٍ مخنوق: 
آسفة حبيبي.

ردَّ عليها بنبرةٍ موجوعة: 
-اهدي خلاص.

خطا إلياس نحوه ببطء، بقلب الأب.. ينبض قلبه بعنف كاد أن يحطِّم عظامه خوفًا..
اقترب مع صوت ابنه الضعيف:

_يوسف.

استدار له يوسف…
طالعه بعينين نصف مرهقتين،  ابتسامةٌ خرجت رغم الألم، ابتسامةٌ تطمئن ولا تطمئن…

_آسف..خضيتكم كلُّكم.

كانت كلمة “آسف” تلك…
أشدُّ وجعًا على قلب أبٍ يشعر بمدى معاناة نجله.
دنا من الطرف الآخر، تاركًا ضي بجواره تحتضن كفِّه ومازالت دموعها لم تتوقَّف، رفع إلياس نظره إليها، ثم عاد إلى ابنه:
_حبيبتى بتعيَّطي ليه، ماهو قدَّامك حلو أهو. 
اقترب أرسلان يسحبها لأحضانه وعيناه على جسد يوسف:
_حمد الله على سلامتك حبيبي. 
أومأ له بعينيه قائلًا:
_الله يسلِّمك يا عمُّو، أنا كويس خلِّيها تبطَّل عياط.. 
هنا فاق الوجع حدوده، كيف يقول لها هذا بعدما ذبحته بكلماتها، وأيقنت أنَّها السبب فيما وصل إليه. 
خرجت تركض للخارج تضع كفَّيها على فمها تمنع بكاءها. 
أشار بعينيه إلى بلال: 
_بلال شوف أختك. 
جلس أرسلان على طرف فراشه، بينما انحنى إلياس يستند بذراعيه يحاوط ابنه بنظراته..يتفحَّصه بعين الأب:
_إزاي حبيبي أغمى عليك كدا، وفي عملية قلب كمان، المريض حصلُّه حاجة؟.
_عادي يا بابا ضغط عصبي، لمَّا حسِّيت بضعف خلِّيت دكتور حمدي يكمِّل العملية. 
_طيب الحمدلله، المهمِّ يكون كويس، وإنتَ ياريت تهتم بصحِّتك حبيبي، مفيش أغلى من الصحَّة. 
_حضرتك مكبَّر الموضوع، شوية إرهاق وضغط عصبي، طبيعي الواحد يوصل لكدا. 
ربت على كتفه واعتدل: 
_المهم إنَّك كويس حبيبي.. 
قالها وخرج متَّجهًا إلى طبيبه، بينما دقَّق أرسلان النظر إليه: 
_مش مخبِّي حاجة على عمَّك يا يوسف؟
_هخبِّي إيه يا عمُّو، بقالي كام يوم منمتش كويس، غير حالة جدُّو اللي موتَّراني.
_ربِّنا يبعد عنَّك الأذى حبيبي. 
_اللهمَّ آمين ياربَّ العالمين. 

بغرفة الطبيب: 
دلف إلياس ملقيًا السلام، نهض الطبيب يحيِّيه:
_أهلًا إلياس باشا. 
جلس بمقابلته: 
_إيه اللي وصَّل يوسف للحالة دي؟
أجابه بابتسامةٍ مطمئنة وطريقة مهنية: 
_مفيش حاجة خطيرة، هوَّ الغلط إنُّه دخل العملية وهوَّ مجهد، من سفر وضغط عصبي وتوتُّر نفسي.

بالمشفى وخاصَّةً بغرفة حمزة:
اعتدل بجلوسه بعد إغلاقه الهاتف،  وقام بنزع الأبر بيدٍ مرتجفة، واحدة تلو الأخرى، كأنَّه ينتزع وجعه..ينتزع خنقته..ليسيل الدم خفيفًا، هرعت الممرِّضة تمسك ذراعه:

_لا! حضرتك مينفعش.

في تلك اللحظة فتح عمران الباب.. 
تجمَّد للحظة وهو يرى أخيه بتلك الحالة.

كان قد وقف حمزة بصعوبة، بجسدٍ يهتزّ، عيناه المرهقة من الألم، بل تلقي نظراتُ حرب، جرحٌ ممَّا يشعر به.

اقترب عمران بسرعة: 
_ حمزة بتعمل إيه؟!

بينما مدَّت الممرِّضة يدها من جديد لتثبِّته، ولكنَّه انفجر كالعاصفة، رغم آلامه إلَّا أنَّه زمجر.
_ابعدي عني.. 

جفلت الممرضة بخوف من حالته التي خلف شخصيَّته، اختنق صوت عمران؛ 
_وبعدين معاك.

التفت إليه وهدر:
_إزاي تلمسني كدا هيَّ اتجنِّنت!! محدش له الحق يلمسني غيرها. 

أغمض  عينيه بقهر، وكأنَّ أي كلمة واحدة من أي شخص تكسر ضلوعه من الاشتياق إليها. 

توسَّعت عينا عمران من كلماته، من يقصد بتلك الـ«هي» التي لا أحد يقترب منه سواها؟!.

رفع حمزة يده المرتعشة يشير للممرِّضة دون أن يراها: 
خرَّجها بالله عليك مش قادر أشوف حدِّ غيرها.

هزَّ عمران رأسه وهو يحاول ألَّا يغضبه،فاستدار إليها:
_لو سمحتي، اخرجي…

غادرت الممرِّضة بخطواتٍ خفيفة…
وبمجرد أن أغلق الباب، كأنَّ الجدار الذي كان يحمله انهار.

لينهض حمزة ويحاول أن يتحرَّك ولكنَّه سقط  فوق الفراش، أنفاسه تتلاحق، خانه جسده الضعيف من مساندة نفسه.

ارتجف صدره، ودمعةٌ ثقيلةٌ انزلقت من عينه دون أي مقاومة.

جلس عمران بجواره يحيط رأسه بكفِّه، يحاول أن يهدِّئ من نبرة أنفاسه المضطربة: 
_ممكن تهدى وتفكَّر في صحتك، عايز تروح فين بالشكل دا؟

رفع حمزة عينيه إليه، نظرةٌ جريح متوسلة، تكاد تنطق وحدها:
_ودِّيني عندها..وأنا هكون كويس.

قطَّب عمران جبينه:
_تقصد مين، شمس؟

أومأ حمزة، وشرارة ألمٍ واشتياقٍ لمعت في عينيه:
_شمس حياتي..ودِّيني عندها وهكون كويس، أوعدك..وحشتني يا عمران… والله وحشتني.

زفر عمران بضيق، يحاول أن يكتم الغضب داخله من عناد أخيه:
_طيب هتروح إزاي؟ إيدك متجبِّسة… وراسك كمان، يا ابني أنا لو مكانك أستحي حبيبتي تشوفني كدا، لازم أكون في أحسن حالاتي قدَّامها.

كأنَّه لم يسمع منه حرفًا..دفع جسده لينتصب واقفًا، اهتزَّ جسده فاستند على يده السليمة.
أسرع عمران يوقفه:
_تمام..تمام، هاجي معاك بس اهدى 

بعد دقائق، دخل الممرِّض بكرسي متحرِّك..جلس حمزة مجبرًا عليه.
تحرَّكا معًا نحو الباب، هنا دلفت دينا..

شهقت: 
_يعني الممرِّضة ماكنتش بتكذب! رايح فين يابني؟ إنتَ لسه قدَّامك أسبوع لمَّا تخرج.

رفع حمزة نظره إليها..لم يجادل، لم يصرخ…فقط قال بصوتٍ واهي لكنَّه ثابت: 
_ماما علشان أكمِّل علاجي هتنزلي تحت وتخرَّجيني نصِّ ساعة. 
كدا كدا هخرج..سواء وافقتي ولَّا لأ  لازم أخرج.

انحنت أمامه، تلمس خصلات شعره بحنانِ أمٍّ تخاف أن تضيِّع ولدها ثانية: _حبيبي إنتَ تعبان..إزاي هتخرج بالشكل دا؟ قول عايز إيه وأنا أجيبه لعندك.

_ماما عايز أخرج وبس..مش عايز حاجة، ولو قلقانة عمران معايا.

نظرت إلى عمران، تبحث عن كلمةٍ تمنعه..وجدته يهزُّ رأسه مستسلمًا: _ماقدرش أمنعه..خلاص هوَّ قرَّر.

رفعت دينا يدها عن شعره، وتنهيدةٌ طويلةٌ انزلقت من صدرها: 
_رايح لشمس..مش كدا؟

رمقها حمزة، وقال بنبرةٍ موجوعة:
_لا، مش كدا..
رايح لحياتي يا ماما..
كلُّكم عايزين تخطفوها منِّي.

_إحنا؟! إحنا 

قاطعها، بكلمات الألم التي خرجت من فمه تضغط على كلِّ كلمة:
_ماما ماتخلينيش أدعي إنِّي ياريتني ماخرجت من الحادثة، لو حياتي تهمِّك  دلوقتي..هيَّ هناك عندها.

ساد صمتٌ موجع…لا أحدٌ يملك الردَّ على قلبٍ يتألَّم حدَّ الذبول.

همست دينا ودمعها يلمع: 
_مش عارفة أقولَّك إيه ياحبيبي…
ربِّنا يصلح حالك..ويهدِّي قلبك  الموجوع.

استقلَّ السيارة بجوار أخيه، يجرُّ معه ألمًا أثقل من أن يحتمَله صدره..كان يتابع الطريق أمامه، لكنَّ العالم بدا ضبابيًّا..كأنَّ السيارة ثابتة والطريق لا ينتهي، كأنه في قارَّةٍ بعيدة وهي في أخرى.

تسلَّلت إلى ذاكرته يوم زيارتها له، اليوم الذي رُدَّت له روحه، بعدما وجد النظرات التي أقسم حينها أنَّه سيحارب الكون من أجل تلك النظرات، راحت ذاكرته حينما فتح عيناه، كان مايزال يلتقط أنفاسه بعد خروجه من الغيبوبة..دلفت هي ووالدتها بخطواتٍ خجولة لا تليق إلَّا بروحها..
ورغم وجعه..شعر بقلبه يفيق قبل جسده.

ابتسمت "دينا" حين رأتهما، كانت تعرف بقدومهما، ولكنَّها لم تعلن حتى تفاجئه، حاولت كثيرًا إقناع ميرال رغم أنَّ "ميرال" لم تكن تريد المجيء، إلَّا أنَّ ضغط ابنتها كان أقوى من رفضها.

اقتربت "شمس" من فراشه بعينين لم تبكِ، بل نظراتها تنوب عن جرح قلبها من حالته، حيث أنَّها لم تستطع إخفاء الألم..لا منه ولا من نفسها.

طالعته للحظات: 

ألف سلامة عليك يا كابتن…
خرجت كلماتها متقطِّعة..وكأنَّ كلَّ حرفٍ يشقُّ طريقه بين جرحٍ وآخر.

حاول أن يعتدل فورًا ، كأنَّ قربها يوقظ حياةً كاملة.
أسرعت "دينا" لتساعده، وعدَّلت وضع وسادته..هنا أرادها هي فقط التي تقترب، نظر لوالدته نظرةً أدركت معناها، أومأت ثم اعتدلت واستدارت، 
تربت بيدها على كتف "شمس" برقَّةٍ
وأشارت لها بالجلوس.

ثم سحبت يد "ميرال" هامسة:

_خلِّيهم خمس دقايق

تردَّدت ميرال للحظة، رفعت نظرةً طويلة نحو ابنتها..نظرة اعتراض، خوف وضعف ابنتها أمامه..
لكن "شمس" اكتفت بهزَّة رجاءٍ خافتة.

فتنحَّت ميرال مرغمة وخرجت.

بقيت هي وهو…
جلست أمامه، لم يتحدَّث…
ولم يحرِّك ساكنًا، بل اكتفى بأن ينظر إليها كانت عيناه مرهقتين، نعم…
لكن خلف الإرهاق كان هناك وجعٌ حيّ،
وشوقٌ يشتعل كلَّما التقت نظراته بنظراتها.

لم تحتمل ثقل النظرة، فحاولت أن تزيح عينيها بعيدًا، لكنَّ شيئًا أقوى منها أعادها إليه، قوَّةٌ تشبه الاعتراف الذي لم يُقال، والاشتياق الذي لم يمت.

ابتسم عندما شعر بذلك، فأمال رأسه قليلًا حتى تألَّم، اقترب بعينيه لا بجسده،
كأنَّه يخاف أن يلمسها فتنهار، أو ينهار هو..لم يمدَّ يده، لم يلمس، حاول ألَّا يخيفها.
ظلَّت نظراته تلتهم تفاصيلها بصمت،
وصوته لم يكن صوت رجلٍ فقط..بل رجلٍ عاش ومات ثم عاد:

_عارفة..قلبي وحياتي كانوا واقفين قبل ماتيجي..
مكنش فارق معايا لو قومت ولَّا لأ.
بس أوَّل ماشوفتك..حسِّيت إنِّي لازم أرجع، لأن لسه فيَّ حاجة نقصاني، حقِّي، حياتي إنتي.

نظرت اليه وهي جالسة على المقعد..
ضمَّت يديها كي تُسكِت ارتجاف أصابعها:

_الأوَّل حمد الله على سلامتك يا كابتن… اهتمِّ بصحِّتك وخلِّي بالك من نفسك.

رمقها بنظرةٍ طويلة لم ترفّ:

_ماتقوليش كابتن، قولي اسمي، أنا حمزة حاليًا، ولكن وعد هكون حياتك.

أطرقت راسها وكأنَّ الأرض أصبحت المكان الوحيد القادر على احتمال عينيها.

مال نحوها بعين رجلٍ لم يعد يحتمل:

_إنتي ليه مصرَّة تحطِّي أسوار بينَّا، أنا بقولِّك أنا كنت ميِّت يا شمس…ولمَّا فتَّحت عينيَّ لقيتك، افتكرت إنِّ ربِّنا لسه بيحبِّني.

ارتجفت أنفاسها، وخافت من قلبها أكثر منه:

_بلاش تقول كده..اللي حصل كان صدفة ونصيب.

أومأ لها و جاء صوته منخفضًا، مبحوحًا..صوتُ رجلٍ اشتاق حدَّ المرض:

_إنتي عارفة قبل ماتيجي مكنتش مهتمّ أقوم ولَّا لأ، بس لمَّا دخلتي رجعت أتنفِّس.

أغمضت عينيها للحظة، ليس هروبًا،
ولكن محاولة للوقوف أمام هذا الاعتراف الذي لا تُقال كلماته.
فتحت عيناها فتقابلت نظراتهما، شعرت بأن نظراته لا تنظر إلى وجهها، ولا لعينيها فقط، بل إلى قلبها مباشرة.

وكأنَّ كلُّ محاولاتها السابقة للاختباء
كانت بلا جدوى.

عادت أنفاسها مضطربة، كأنَّ صدرها ضاق من كلماته فقالت بهمسٍ متقطِّع:
_وبعدين يا كابتن، لو سمحت ماتضغطش عليَّ.

رفع يده ببطء حذرًا وكأنَّه يلمس جرحًا مفتوحًا..وهو يشير على قلبه:
_دا بيوجعني قوي يا شمس.
نظرت إلى يده التي أمسكت قلبه
ثم إلى عينيه..وفي تلك اللحظة
توقَّف الزمن وشعرت بنبضها البريء يعلن عن تمرُّده لينبض له، لم تر سوى كفِّه الذي يضغط على قلبه ونبرة صوته التي شقَّت صدرها، ليتوقَّف كلُّ شيء، ولم يظل سوى قلبانِ يعترفان دون صوت.

نظر لعينيها المرتبكة الضائعة، ثم همس:

قوليله يهدى إنتي موجودة.
هنا ارتجفت دمعةٌ في عينيها..
لم تسقط، ولكنَّها اعترفت بألمها لما يحدث. 

فقالت بصوتٍ خافت يخرج بصعوبة:
_حمزة لو سمحت بلاش تصعبَّها علينا.
هنا صمت ولم يعد للحديث أهميَّة، يكفي قولها اسمه دون ألقاب:
_شمس أنا بحبِّك بجد، مش عايز منِّك غير تبادليني ربع الشعور اللي حاسس بيه.

هنا  انهارت وضاعت باعترافه للمرَّة الثانية، حتى غامت عيناها بالدموع من مستقبل لُطِّخ بسواد الماضي.
وقفت ببطءٍ ثقيل، ترنَّح جسدها، وشعرت بصخب قلبها، لكن نظراتها لم تفلت عينيه..وكأنَّها لو أفلتتها، سيسقط كلُّ شيء..جرَّت ساقيها مرغمةً وعيناها مازالت متعلِّقة بعينيه..

تحرَّكت إلى أن وصلت الباب، فتوقَّفت على صوته المرهق: 
_هتوحشيني، هكلِّمك يبقى ردِّي عليَّا، وافتكري إنِّك هتكوني لحمزة الجارحي، حتى لو حاربت العالم كلُّه.
التفتت..ونظرت إليه نظرةُ اشتياقٍ من الآن، لوم، وحبّ. 
أومأ لها بابتسامةٍ رغم عيناها الضائعة
وطالعها بنظرةٍ كلَّها وعودٍ خافتة..لا تحتاج كلام.

خرج من شروده على وقوف السيارة أمام بوَّابة الجامعة، ظلَّ يراقب الطريق يبحث عن سيارتها، تحدَّث عمران:
_كلِّمها شوفها فين.
التقط هاتف عمران وقام بالرنين عليها، توقَّف بعدما وجد السيارة تدلف إلى الحرم الجامعي، ظلَّت عيناه تراقب السيارة ينتظر نزول جنيَّته الصغيرة، ماهي إلَّا لحظات حتى ترجَّلت من سيارتها، ببدلتها البيضاء، وحجابها الفيروزي، ياالله ماهذا الجمال الذي سيوقف قلبي ويحبس أنفاسي، دارت بعينيها حتى وقعت نظراتها على وقوف عمران أمام سيارته يهزُّ رأسه إليها، شعرت بالخذلان من نفسها، لا تعلم لماذا فعلت ذلك، لقد خانت ثقة أبيها وأمَّها بها، تراجعت سريعًا بعدما أيقن عقلها أنَّها خائنة، واستدارت للداخل سريعًا تهرب من كلِّ شيءٍ يحاوطها، كأنَّ جميع النظرات ترشقها باتهامات الغضب على ماتفعله، كيف سمحت لنفسها بذلك. 

تجمَّد جسده للحظة حينما دلفت إلى كليَّتها دون التفاتة..دون حتى نظرة..
كأنَّها سحبت من صدره الهواء كلِّه وتركت القلب وحده يتخبَّط موجوعًا.

شعر أنَّه يريد الركض خلفها..يريد الإمساك بيدها، أن يخبرها بصوته المبحوح كم أرهقته الفُراقات التي وضعتها.
كم تُتعبه المسافة حين تكون هي الطرفُ الآخر منها.

تبًّا لقلبٍ لم يَعُد يعرف كيف يعيش بدونها، تبًّا لنبضٍ عالقٍ في هواها لا ينضبط…
وتبًّا لتلك القاسية التي تركته مُعلَّقًا بين الحياة والموت.

التقط هاتف عمران، اتَّصل بها مرَّةً و اثنتين و ثلاث…لكنَّها لم ترد، بل أغلقت الهاتف.

أغلقت عنه كلَّ ماتبقَّى له من نفس.

خرج من السيارة بعنف وجسده بالكاد يطيعه، ليقف عمران أمامه كحاجز: 

_انسى يا حمزة، بلاش تهين نفسك.
_وسَّع من وشِّي، هتجنِّن.
أوقفه قائلًا: 
_إنتَ مش ماشي بالشكل ده…هتروح فين، القاعة وقلبك واقع، وهتستحمل لو هيَّ رفضت تشوفك قدَّام الكل؟
_أنا..أنا عايز أشوفها…أكلِّمها حتى لو كلمة واحدة، حتى لو بتكرهني.
قالها بصوتٍ مكسور، مكسور بطريقةٍ لا يُطاق معها الألم.

أمسك عمران ذراعه بقوَّة، كأنَّه يحاول أن يبعد عنه انهيارٍ كامل: 
_اسمعني..ارتاح يومين، بس يومين..
ساعتها روح، واحكي، واصرخ، وابكي… أنا معاك.
بس دلوقتي، إنتَ هتوقع، وهتكسر روحك بإيدك، وبلاش تقلِّل من قيمتك وبلاش تخسر آخر جزء منَّك.

توقَّف حمزة ينظر إلى باب الكلية، وبدأ جسده يخونه ويرتجف، ولم يعد لديه القدرة على التحمُّل.

أغمض عينيه، تنفَّس وجعًا، ثم عاد للسيارة وقلبه مشتعلًا حدَّ الاحتراق.

وصل المستشفى بعد فترة…
كان إسحاق واقفًا  لا كوالدٍ فقط، بل كجبلٍ ممتدٍّ من الصلابة والغضب 

ماإن رآه حتى زمجر بنبرةٍ لا تشبه تعقُّله:
_عايز تقتلني يا حمزة، إزاي تخرج وإنتَ لسه تعبان؟!

لم يرد…
لأنَّ الكلام الآن يحتاج قلبًا ثابتًا، وهو يشعر بأنَّ قلبه ينهار، حاول التحرُّك…
لكن توازنه اختلّ وسقط كأنَّه يهوي من قمَّةِ جبل، ليرتطم جسده بالأرض القاسية، ورغم آلامه بها لكنَّ الألم الحقيقي كان في صدره لا في جسده.

صرخ إسحاق صرخةً مزَّقت المكان: _دكاترة!!! حد يلحقه!!!

ركضوا..رفعوه..بين ذراعَي أبٍ اعتاد أن يقف كقلعة والآن يرتجف كمن فقد العالم.

ينظر إلى ابنه الذي كان يحاول فقط أن يتنفَّس من دونها.
بمنزل يزن: 
دلفت إليه تحمل قهوته وضعتها بهدوء، كان منشغلًا على جهازه، جلست بمقابلته، انتبه إلى جلوسها، فاستدار يتطلَّع إليها باستفهام:
_رحيل فيه حاجة؟ 
أومأت تفرك كفَّيها، ثم قالت:
_فيه مشكلة لازم تعرفها.
أنصت إليها باهتمام، اختنق صوتها: 
_رولا. 
ضيَّق عيناه باستفهام، فنهضت لدقائق معدودة ووضعت أمامه الهاتف وورقة مطويَّة بجوارها صورة لشخصين. 
قلَّب الهاتف بنظراته ثم تساءل:
_دا تليفون، بتاع مين؟. 
_رولا..
قطَّب جبينه بجهل وقال:
_بس دا مش بتاع رولا. 
أومأت تنفي حديثه قائلة:
_رولا عرفت إنَّك بتراقب تليفونها، جابت دا، المهمِّ مش التليفون، شوفها بتكلِّم مين على التليفون.

فتح الهاتف، وعيناه تتفحَّصان الأسماء كأنَّها خريطة الموت:
"رؤى..تقى"
توقَّف فجأة وارتجف صوته:
_رؤى..مين، أختي؟!

أومأت برأسها، والدموع أغرقت خدَّيها:
_للأسف هيَّ، وتقى دي صاحبتها.

أشارت إلى الورقة المرتجفة بين يديها:
_وده عقد جواز عرفي باسم بنتك… واسم واحد مش معروف، بقالي شهر بدوَّر عليه..شكله مزوَّر.

شعر باعتصار قلبه، كأنَّ الأرض اختلَّت تحت قدميه، وأنفاسه صارت ثقيلة تكاد تخنقه.
فتح أزرار قميصه بعنف، يهزُّ رأسه بلا وعي، يتمتم:
_لا… لا..أكيد في حاجة غلط، بنتي… بنتي ماتعملش كده…

انحنت هي تحتضنه وتبكي بنشيجٍ يقطع الصمت:
_عملت يايزن، أنا روَّحت لطارق، وواجه رؤى، وقالت كلِّ حاجة، ضيَّعت البنت..أختك ضيَّعت بنتي..
_وياما حذَّرتك منها..قولت إيه؟ بتغيري من البنت، بنتي ضاعت يا يزن، ومش متقبلاني.

_أختك مفهِّماها أنا السبب في دخولها السجن، ومش بس كده، مفهِّماها إنِّي كنت على علاقة بطارق..وأثبتت بصور خطوبتي على طارق.

تراجع يزن للخلف، خانه جسده فسقط على المقعد بوجهٍ شاحب، وعيناه خاليةً من الكلام.. 
نهضت تركض نحوه، تلمس صدره وتهمس بحزن:
_يزن…مالك؟! يزن..افتح عيونك.

لكن جسده لم يستجب، فلقد فقد النطق، واغروقت عيناه بالدموع، وشعر بغمامةٍ تحاوطه حتى هرب بها من واقعٍ أليم، اختلط قلبها بالعذاب من حالته، فصرخت باسمه حتى دخل بلال مسرعًا يسأل:
_إيه اللي حصل هنا؟!
سمع صراخها واندفع نحوها، قام بإسعافه بسرعة، ونقله إلى الفراش، واتَّصل بالطبيب..بينما هي تجلس على الأرض تبكي وتصرخ، كأنَّ العالم كلِّه انهار حولها.
عند يوسف: 
عاد إلى منزله بعد عدَّة ساعات، ساعده والده وأرسلان بنومه، بينما هي تقف لدى الباب تراقب كلَّ إنشٍ به، انحنى إلياس: 
_حبيبي إنتَ كويس؟ 
أومأ له وقال:
_بابا شوية إرهاق، هنام وهقوم كويس صدَّقني. 
التفت إلى ضي وقال: 
_حبيبتى جهِّزي حاجة لجوزك ياكلها قبل ماينام. 
هزَّ رأسه بالرفض دون أن ينظر إليها، وقال:
_لا عايز أنام..قاطعهم دفع ميرال الباب تركض إليه: 
_ماله يوسف، إيه اللي حصل؟
قالتها واتَّجهت إلى فراشه ودموعها تسبق خطواتها وهي تراه طريح الفراش..أبعدت إلياس تنظر اليه بغضب:
_لحدِّ إمتى مش معتبرني أمُّه، مكنتش عايز تعرَّفني بتعبه.
_ماما أنا كويس. 
انحنت تحضن وجهه وتملِّس على شعره:
_دايمًا يا حبيبي، كدا يا يوسف، يعني لولا بلال مكنتش أعرف إنَّك تعبان؟
_أنا مش تعبان صدَّقيني، شوية إرهاق. 
التفتت إلى ضي: 
_إزاي ماتقوليليش إنُّه تعبان؟ خلاص هونت عليكم كلُّكم. 
_ماما قولت لك أنا كويس عايز أنام وبس. 
شدَّها إلياس بغضب: 
_اهدي، ماهو كويس قدَّامك، أنا مش معتبرك أمُّه!! طيب يا ستِّ ميرال، قاطعهم رنين هاتف إلياس، ضيَّق عيناه ينظر إلى أرسلان: 
_دا بلال، هوَّ مش كان رايح ليزن؟..قالها وقام بالرد: 
_عمُّو، عمُّو يزن تعبان أوي، تعال بسرعة.. 
لم يدعه يكمل حديثه وانسحب للخارج مع خروج أرسلان خلفه بعدما استمع إلى صوت بلال. 
_رايحين فين؟ 
تساءل بها يوسف، ولكنَّها لم تهتم وجلست بجواره: 
_إيه اللي حصل معاك يا حبيبي، ليه وقعت كدا؟ 
وقعت عيناه على ضي التي اقتربت تنظر إليه بحزن ثم قال:
_مفيش حبيبتى شوية إرهاق، المهمِّ ليه بابا خرج كدا؟ متأكد فيه حاجة كبيرة حصلت.
_مفيش حاجة، المهمِّ اهتمّ بصحِّتك، هقوم أعملَّك حاجة تاكلها، رفعت رأسها الى ضي: 
_خلِّيكي جنب جوزك حبيبتى هعملُّه شوربة.

ماما أنا هنام..خديها واطلعوا برَّة.. مش عايز إزعاج لو سمحتم.

تجمَّدت في مكانها، ارتعشت شفتاها:

_ بتطردني يا بن إلياس؟..هوَّ إنتَ ابن مين أصلًا؟!

ابتسم، ابتسامته الضعيفة التي تحاول أن تخفي كلَّ ماانكسر بداخله، ثم مدَّ يده إليها:

_تعالي..هاتي حضن وحشتيني أوي.. نسيت آخد منِّك حضن.

سقطت دموعها من تلقاء نفسها..
جلست بجواره تضمُّ رأسه إلى صدرها..

ياالله من ضمَّة أمٍّ تستطيع أن تعيد روحًا إلى جسد.

كانت ضي واقفة تراقب المشهد بعينين مملوءتين بالدموع..
قلبها يعتصر، ونفسها يختنق..
وبين كلِّ دقَّةٍ من دقَّات قلبها كان هناك سؤالًا واحدًا يصرخ:
_كيف وصلنا إلى هنا؟

اعتدلت ميرال، قبَّلت جبين ابنها، رتَّبت الغطاء فوقه بحنان، ثم خرجت بهدوء..
خرجت لترى ضي جالسةً على المقعد أمام الغرفة تبكي بصمت..
صمتٌ موجع، ثقيل، يجرح الروح ولا يُسمع.

جلست ميرال بجوارها دون كلمة.
ثم مدَّت يدها واحتضنت كتفيها، سحبتها إلى صدرها كأمٍّ ثانية:

_هوَّ كويس يا حبيبتي..ماتخافيش.

لكن ضي لم تستطع أكثر..
انهار صوتها..مبحوحًا.. مشقوقًا من الداخل:

_أنا السبب يا طنط..أنا اللي زعَّقت له في التليفون..وقلت له لو مجاش.. هننفصل.

ارتفع رأس ميرال فجأة، وطالعتها بصدمةٍ في عينيها:

_يعني إيه يا بنت أرسلان؟

سقطت بين يديها، انفجرت بالبكاء:

_أنا تعبانة..تعبانة أوي..قلبي موجوع.. ومش عارفة أعمل إيه.

رفعت ميرال وجهها بين راحتيها، ونظرت لها بعمقٍ يلامس الروح:

_يوسف ماتمِّمش جوازه صح..مش كده؟

أغمضت ضي عينيها، والدموع انحدرت وصرخ القلب من الداخل
وكأنَّ الصمتَ هنا كان اعترافًا كاملًا.

شحب وجه ميرال..انقبض صدرها..
كأنَّ يدًا غليظة أمسكت بقلبها وعصرته بلا رحمة.

همست ضي بصوتٍ يختنق:

_يوسف مابينامشِ غير على المهدِّئات.. 
توسَّعت أعين ميرال وارتجف جسدها:
_ابني بيضيع..وأنا واقفة عاجزة مش قادرة أمدِّ إيدي وأنقذه!!.

ياالله على وجع أمٍّ ترى جرح ابنها ولا تملك سوى الدعاء.

أمسكت ميرال ذقن ضي بلطف، ورفعتها لتواجه نظرتها:

_اسمعيني يا ضي..مفيش كلمة من اللي اتقالت تطلع برَّا..لا لعمِّك..ولا لأي حد.

هزَّت ضي رأسها بنعم كأنَّه وعدٌ صامت.

اقتربت ميرال أكثر، وضعت جبينها على جبينها:

_قرَّبي منه..يوسف بيحبِّك..والله بيحبِّك، أنا عارفة نظرة ابني إمتى تبقى حب..وإمتى تبقى وجع.

انفجرت ضي بالبكاء:

_بس هوَّ بيبعد عنِّي..

مسحت ميرال دموعها بإبهامها:

_هوَّ مش بيبعد عنِّك..هوَّ بيهرب من نفسه.

_أنا قرأت مذكراته يا طنط، هوَّ مش بيعاني بس هوَّ عايز يموِّت نفسه بالبطيء. 
مسحت على رأسها ورغم اعتصار صدرها إلَّا أنَّها قالت:
_اللي بيحبّ بيحارب، وأنا متأكدة إنُّه حيحارب علشانك، اسأليني أنا دا نسخة من أبوه، ممكن مايتكلِّمش بس بيعاني من جوَّاه، عايز إيد تحضنه. 
ضمَّتها لأحضانها وملَّست على خصلاتها:
_عارفة إنِّك شايلة فوق طاقتك، بس والله هوَّ حنون ويستاهل، أومال لو شوفتي عمِّك عمل فيَّا إيه. 

أسبوعًا آخر في محاولات التقرُّب منه، ولكنَّه أخذ الصمت جوابًا لكلِّ ماحدث لهما..في إحدى الليالي دلفت إليه بقهوته، كان منشغلًا أمام جهازه، تحرّّكت ووضعت القهوة أمامه ثم جلست:
_عايزة أتكلِّم معاك. 
_مش فاضي، لو فيه حاجة مهمَّة أجِّليها لمَّا أخلص. 
قامت بدفع الجهاز حتى سقط على الأرض، وثارت حالتها كأنَّ من يراها يظنُّ أنَّ مسَّها مسًّا جنونيًّا:
_إنتَ بتعمل معايا كدا ليه، عايز تعاقبني على إيه؟
اقتربت تدفعه بصدره وازداد بكاءها تصرخ به:
_أنا حبِّيتك، أعمل إيه، موِّتني يا يوسف علشان ترتاح، موِّتني وريَّحني من العذاب دا، أنا كدا كدا ميِّتة في كلتا الحالتين، سواء طلَّقتني زي ماقرَّرت أو كمِّلت معايا بالطريقة دي، أنا عايزة أحسِّ إنَّك باقي عليَّا، علشان كدا قولت لك الكلام دا. 
كان يستمع إليها بصمت، إلى أن سقطت على الأرضية تضمُّ ساقيها إلى صدرها..تنظر بشرودٍ وضياعٍ حولها: 
_مش عايزة حاجة غير إنِّ حبيبي يحسِّ بيَّا، ليه مستكر عليَّا دا، ليه دايمًا توجعني وتدوس عليَّا وكأنِّي ماهمَّكش؟.
انحنى ورفعها من فوق الأرض، احتضن وجهها يمسح دموعها: 
_مش إنتي اللي قولتي ننفصل عايزة ترتاحي منِّي، خلاص اللي إنتي عايزاه. 
نظرت لعينيه بدموعها:
_أنا لو قولت لك تطلَّقني دلوقتي هطَّلقني يا يوسف؟
ارتجف جسده وزاغت عينيه،حتى شعر بتوقُّف قلبه وهو ينظر إليها، دنت تنظر لمقلتيه: 
_هطَّلقني يا يوسف لو طلبت، يعني إنتَ مكنتش بتحبِّني؟
هزَّ رأسه رافضًا حديثها وهمس بتقطُّع: 
_لا..مش هعملها، ضي أنا بحبِّك، بس.. 
اقتربت حتى تلامست الأجساد تنظر لعينيه:
_بس إيه يا حبيب ضي، قولِّي وأنا مستعدَّة أستناك العمر كلُّه، بس ارحم قلبي، وعرَّفني نهاية حياتنا إيه، ولَّا خلَّصني من حياتي علشان متألِّمش في بعدك، أنا بموت يا يوسف، مراتك بتموت ومعرفش إنتَ حاسس ولَّا لأ.
سحبها لأحضانه يضمُّها بقوَّة كأنَّه سيفقدها:
_لا..مقدرش أعيش من غيرك.. صدَّقيني، مستحيل أطلَّقك. 
لفَّت ذراعيها حول جسده وابتسمت من بين دموعها: 
_وحشني حضنك أوي. 

قبَّل عنقها لتنكمش بأحضانه، فقام برفعها وحملها متَّجهًا الى فراشهما، وضعها بهدوءٍ يملِّس على خصلاتها:
_خلاص مبقاش ينفع البعد يا بنت عمِّي. 
مدَّت يدها دعوةً منها لنومه..تمدَّد بجوارها وسحبها لأحضانه:
_تعرف منمتش بقالي كام يوم. 
قبَّل رأسها: 
_نامي حبيبتى أنا جنبك. 
كأنَّها كانت تنتظر تلك الكلمات لتذهب بنومٍ عميق. 

بعد فترة ابتعد بهدوء يضع رأسها على الوسادة، نظر إلى وجهها الذي مازالت أثار الدموع تزيِّنه، نغزه قلبه، انحنى يطبع قبلةً على جبينها، يهمس بخفوت: 
_آسف..فتحت عيناها بتململ، ثم اعتدلت بعدما أفاقت، وجدته ينزل من فوق الفراش:
_إنتَ رايح فين؟ 
سحب جاكيته وقال:
_هشوف بابا، اتَّصل تلات مرَّات.
توقَّفت أمامه تعترض نزوله:
_مش هتنزل، طيب كلِّمه. 
ضمَّ رأسها وقال:
_مينفعش، مبيتِّصلش كدا إلَّا لمَّا يكون فيه حاجة، مش هتأخّّر وعد. 
تلألأت الدموع بعينيها، انحنى يطبع قبلةً بجوار شفتيها، ثم رفع عيناه يغرق بعينيها الحزينة:
_أوَّل ولد هسمِّيه إلياس، لازم تكوني عارفة دا شرطي، والتاني أرسلان، إنَّما أوَّل بنوتة هسمِّيها، صمت ينظر لعينيها التي ابتسمت فقالت: 
_ميرال مش كدا؟ 
_تؤ..ضي القمر. 
ارتجفت شفتيها لتنساب دموعها، سحبها إلى أحضانه: 
_كدا مش هنزل لإلياس الكبير وشكلي هجيب إلياس وأرسلان دلوقتي. 
دفنت رأسها بصدره..أغمض عيناه يتنهَّد بألم:
_ضي ممكن أطلب منِّك طلب؟ 
خرجت من أحضانه تنظر إليه تنتظر حديثه، فقالت:
_أؤمر.

توقَّف أمامها، وعيناه تحملان ذلك البريق الذي لا يُخطئه قلب عاشق.. كانت تنظر إليه بفضول، بينما كان هو يرمق تفاصيلها كما لو يراها للمرَّة الأولى وقال: 

_عايز أطلب منِّك طلب.

اقتربت بخطوةٍ صغيرة، وقالت بنبرةٍ هامسةٍ منخفضة:
_أؤمر.

لم يمهلها أن تكمل نظرتها، مدَّ أنامله يمرِّرها برقَّةٍ على جانب عنقها، ثم انحنى يلثم بشفتيه أثر الخطِّ الذي مرَّت عليه أصابعه.
ارتجفت أنفاسها وشعرت بأنَّ الهواء ثقيلًا، لم يرحمها بل اقترب أكثر وأكثر. 

همس بنبرةٍ مبحوحة:
عايز أرسم لك الحِنَّة المرَّة دي.

اتَّسعت عيناها، وارتجف على أثرها  عنقها حتى وصلت الرجفة لقلبها.
رفَّت رمشيها تلتقط أنفاسها ببطء:
_قصدك التاتو؟

هزَّ رأسه رافضًا، وعيناه لا تزال معلَّقة عليها:
_لأ..أرسم حِنَّة، التاتو كلمة أجنبية، وأنا عايزها بطعمِنا، ريحتنا، إحساسنا.

ضحكت بخفوتٍ خجول محاولةً الهروب من سطوة قربه:
_ماعلينا..بس مينفعش، هتقولِّي ليه؟ هقولَّك بتبقى مفاجأة، إحساس مختلف، وبصراحة..أنا بتكسف.

ضحك هو ضحكته الرجولية المعهودة، تلك التي تُربكها وتطمئنها في آنٍ واحد، قبل أن يسحبها إلى صدره بقوَّةٍ لا تقبل اعتراضًا:

_بتتكسف! عليَّ أنا، دا أنا جنبك عايز برقع.

شهقت بخفَّة وهي تضربه على كتفه:
يعني إنتَ شايفني كده؟

ضمَّها أكثر ووضع رأسه عند أعلى شعرها:
_أنا شايفِك كلِّ حاجة حلوة..في عقلي وقلبي ونظري، وكلِّ مرَّة بشوفك فيها بحبِّك من جديد.

لمعت عيناها بسعادة وكأنَّ كلماته أشبعت قلبها بحبِّه.

تراجعت خطوةً بخفَّة، تُشير له بمرحٍ محبَّب:
_طيب يلَّا بقى..روح لعمُّو ومتتأخَّرش.

رفع جاكيته عن الكرسي، وقبل أن يبتعد انحنى، رسم قبلةً دافئةً بجانب شفتيها، قريبةً بما يكفي لتبقى طول غيابه، وهمس:

_هتوحشيني.

همست وهي تحاول أن تنظِّم أنفاسها:
_وإنتَ كمان..بس خلِّيها مش كتير.

ابتسم..تلك الابتسامة التي تُقال بدل آلاف الكلمات.
توقَّف فجأةً واستدار إليها، يسحب كفَّها برفقٍ إلى غرفة الملابس.
قال بصوتٍ منخفضٍ لا يخلو من الدفء:
_نسيت حاجة مهمَّة.

سارت بجواره بخطواتٍ بطيئة متسائلة حتى وصلا إلى صندوقٍ ورقيٍّ أنيق، مزيَّن بعناية، حمله ثم قدَّمه إليها:

_الحاجات دي جبتها لك..اأمنَّى تعجبك.
_إيه دي؟
_لمَّا تفتحيها هتعرفي.
قالها ومضى تاركًا خلفه الفضول في قلبها.

جلست تفتح الصندوق ببطء…
كانت رائحته تشبه حضوره، تشبه كلمة أمان.

رفعت أوَّل علبةٍ تنظر إليها قائلة: 
_معقول برفيوم!! بس دا كلُّه؟

فتحت زجاجات العطور..مزيجٌ من روائحها، وأخرى تشبه رائحته عليها، كأنَّه اختارها بقلبه لا بعينه.
ابتسمت وشهقةٌ صغيرة تسلَّلت منها دون إرادة.

انتقلت لعلبةٍ أخرى..أدوات تجميل تحتوي على أحمر شفاه بلونٍ نبيذيٍّ عميق..ضمَّت شفتيها بمرحٍ وهي ترفعه أمامها، ثم أعادته برفقٍ وكأنَّها تخبِّئ لحظةً مؤجلة.

ثم صندوقٍ ثالث..إكسسواراتها، تلك التي يعشق هو بريقها الهادئ عليها.

وأخيرًا..صندوقٌ أكبر، فتحته، تجمَّدت وشعرت بتوقُّف قلبها وثقل أنفاسها.

كانت قطعةُ قماشٍ ناعمة، بيضاء، خفيفة..إنَّها منامةٌ حريريةٌ فاخرة، تصميم ذلك المصمِّم نفسه الذي صمَّم فستان زفافها.
وقعت عيناها على اسم حبيبها الذي كان مطرَّزًا في الأعلى، كأنَّه يؤكد لها أنَّه رسمها وقضي الأمر لتصبح ذاكرة لا تُنسى.

ضحكَت..ضحكةً خرجت منها بصدق… ودموع فرحٍ تلمع في عينيها.

وقفت فورًا ورفعتها بين أصابعها، وضعتها أمام جسدها، دارت لبعض اللحظات ثم اندفعت إلى الحمَّام. 

خرجت بعد قليلٍ بعدما أنهت ماأرادت فعله..رفعت هاتفها تطلب من إحدى الخادمات مايلزمها، أقسمت لنفسها أنَّ هذه الليلة لن تمرَّ عابرة..ليلةٌ ستُحفر في الروح قبل الذاكرة.

وقفت لدقائق أمام فراشها قبل أن ترتدي قميصها، ثم بدأت تُزيِّن الغرفة…
إضاءةٌ خافتة تتوهَّج من شموعٍ معطَّرة، تضفي دفئًا ووميضًا على جدران المكان.
موسيقى رومانسية هامسة تلامس أشيائهم كنبضِ قلبٍ عاشق.
ورائحة الفانيليا والورد تتسلَّل في المكان كأنَّها تكتب وعدًا بالحنين.

ثم اتَّجهت إلى الداخل..
عطَّرت جسدها، توَّجت عنقها بعطره المفضَّل، وارتدت تلك المنامة التي أهداها لها. 
خرجت أمام المرآة الكبيرة.

ياالله..كلِّ التفاصيل تُعانقها وكأنَّ المنامة صُنعت على جسدها، كأنَّها خُلقت لتكون عروسًا تُربك النور.

ابتسمت..ابتسامةً مُشبعةً بالامتنان وبالخجل..بانتظار العناق الأوَّل.
ضغطت شفتيها كلَّما تخيَّلت ملامحه حين يراها..لكن تسلَّلت فكرة، 
هل سيراها كزوجته..أم كابنة عمِّه؟
تأفَّفت وأبعدت ذلك الهاجس القاسي عن صدرها.

_مش مهم..المهمِّ أحسِّ بحبُّه وأنا جوَّا حضنه.

أنهت لمساتها الأخيرة…
وعندما نظرت لنفسها، لم ترَ امرأةً عادية..بل رأت ملكة جعلت القدِّيس ينحني لدهشته.

وفي تلك اللحظة فُتح الباب ودخل هو..توقَّف عند العتبة…
رائحة الشموع تتسلَّل إلى رئتيه…
ناهيك عن الإضاءة الخافتة تلتفُّ بالمكان، وعيناه تبحثان عنها، إلى أن وقعت عيناه عليها. 

_حورية..كأنَّها سقطت للتوِّ من جنانٍ خُلقت لمن يؤمن بالعشق.

اقترب بخطواتٍ بطيئة، ثابتة، 
وهي ماتزال أمام المرآة، خجولة، كتلة شوقٍ ترتجف من نظراته.

شعر جسدها بالحرارة، من نظراته… اليوم لم تكن نظرات ابنِ عم، ولا نظرات رجلٍ مُتردِّد، كانت نظرةُ رجلٍ وجد أنثاه.

همس..بصوتٍ لا يصدر من الحنجرة… بل من القلب:

_ضي 

استدارت لتحتضن النظرات، لا حاجةٍ لكلمات…فالقلوب الآن تتحدَّث.

ذلك العشق لم يولد اليوم، ولا منذ شهور…إنَّه عشقٌ تكوَّن في أعماق الروح منذ سنوات، والآن جاء موعده ليتنفَّس.

توقَّف هو، كذلك هي، وتوقَّف الكون.

وحدهما، عاشقان، في مرآةٍ واحدة…
وقلبٍ واحد، وليلةٍ لا تُنسى.

اقترب خطوة، ثم أخرى، حتى صار خلفها تمامًا دون أن يلمسها.

وقال بصوتٍ خرج خافتًا، مبحوحًا مشتعلاً بالعشقِ المكبوت:

_معقول الجمال دا ملكي؟!
ابتسمت بعينين تلمعان، وخجلٍ يلوِّن وجنتيها:

_عجباك؟
سألته بصوتٍ منخفض.

نظر إليها في انعكاس المرآة وكأنَّه يراها لأوَّل مرَّةٍ حقًّا.
كأنَّ الزمن اختار هذه اللحظة تحديدًا ليكشف له جمالها، جمالٌ لا يهدأ منه القلب.

اقترب ورفع يده ببطء، لمس كتفها العاري بحنانِ عشقه لها.
قال بصوتٍ مبحوح، صادقٍ حتى الوجع:

_مش عجبتيني بس..دا قلبي هيقف من الجمال دا.

أدارها إليه بيدين ترتعشان رغبةً وضبطًا للنفس..اقترب من أذنها، وهمس:

_أنا عايز أروح أبوس أبويا دلوقتي إنُّه كان سبب إنِّي أخدك، بس والله مش قادر أسيبك ثانية.

انخفض رأسها بخجلٍ، فرفع ذقنها برفق وانحنى لتتلاقى الشفاه..لا، لم تكن قبلةٌ عابرة..كانت اعترافًا…
كانت دمعةً سقطت دون أن تنزل…
بل قد ضاعت أنفاسهما بينهما، ولا يريدان أن تعود.

قبلةٌ خالصةٌ من قلبين كانا ينتظران هذه اللحظة منذ أوَّل دقَّة عشقٍ خبَّأها كلٍّ منهما بصمت.

تراجع وهو يلهث، محاولًا إيقاف الارتعاش الذي سكن جسده، قال بتقطُّع: 

_تعالي..نتعشَّى.

أومأت بخجل..طالعها بنظرته الثاقبة، وأجمل مافي الأمر أنَّه يرى خجلها وكأنَّه يرى القمر ينحني على الأرض، لما لا وهي ضي قمرهِ الساطع.

جلس وسحبها فوق ساقيه، لما لا فلقد أقسم ستكون ملكه وحده.
ضمَّها إلى صدره، ودفن وجهه بين خصلات شعرها المرفوعة يستنشق رائحتها.
شهقةٌ صغيرةٌ فرَّت من شفتيها، لفعلته البسيطة، فأغلقت عينيها وتركت قلبها يسقط بلا مقاومة.

عندما شعر بانهياره أمام نعومة جسدها الذي يستند إليه، نهض لم يتكلَّم..وابتعد عن كلِّ شيء، لا يريد الآن سواها.
أشارت إلى الطعام وهمست وعيناها تعانق نظراته بها:
_الأكل هيبرد.
_إشش..أكل إيه وأنا معايا الجمال دا.
_يوسف لازم..لكنَّه لم يدعها تنطق 
فالآن لا حاجةٍ للكلمات حين تتحدَّث الأرواح.

حملها بين ذراعيه برفقِ العاشق، لا بعجلةِ الرجل، وضعها على الفراش… كمن يضع قطعةً من روحه في مكانها الصحيح.

حاوطها بذراعه وعيناه تلامس كلَّ وجهها:
_ضي..بعد الليلة دي، مفيش حاجة اسمها تبعدي عنِّي يوم.
وحتى لو زعلنا..نرضِّي قلوب بعض.
اللي بينَّا مايطلعش برَّا باب أوضتنا… ولا حتى لوالدتك.. 
أنا دلوقتي غير أي حد بالنسبالك، أقرب لك من نفسك، حتى باباكي ومامتك، مكانتهم غير يوسف، يوسف أوَّل واحد تلجئيله في الصغيرة قبل الكبيرة، فيه حاجات بتكون للزوج بس، حتى متنفعش للأب، فاهمة قصدي؟
قطَّبت جبينها بجهلٍ من حديثه.
مرَّر أنامله على قميصها الناعم الشفَّاف الذي يظهر جسدها بالكامل، وهمس بنبرةِ عاشقٍ غيور: 
_يعني مينفعش حد يشوفك كدا غيري حتى لو أبوكي، شوفتي القرابة بين الزوج والزوجة، رغم قرب الأب بس الزوج حاجة أقرب وأقرب من أي شخص.

الزوجة..بتبقى سكن جوزها، أمانه، ضهره، ونبض قلبه لمَّا يتوه.

قرَّب وجهه منها أكثر، وصوته انخفض حتى كاد يلامس نبضها:

_وأنا..هادفنك جوَّا قلبي.
ولو العالم كلُّه حاول يبعدك عنِّي، صدَّقيني هادفنك وأدفن نفسي معاكي..إنتي ماتعرفيش بحبِّك قدِّ إيه.

ارتجف صوتها، لكنهَّا قالتها بصدقٍ:

_وأنا بحبَّك وأموت في بعدك.

انحنى اكثر وقرَّب وجهه إليها:

_إحنا اتنين، بس في روح واحدة.
نِقوى ببعض..ونطيب ببعض، ولو ضعفت أنا، تبقي إنتي قوِّتي.
ولو تعبتي إنتي..أبقى أنا حضنك اللي يردِّك للدنيا.

مدَّ يده يلامس خدَّها، وكأنَّه يطمئن قلبها قبل جسدها:

_وأنا مش هسيبك..
ولا هسيب قلبك يتعب ولا يخاف
من النهاردة وإلى آخر نفس، إنتي سكني وأنا أمانك.

نزلت دمعةٌ صغيرةٌ من طرف عينها، لكنَّها لم تكن دمعة حزن..كانت دمعةُ اعترافٍ بالعشق.

_إنتَ أغلى من روحي يايوسف…
هوَّ فيه أغلى من الروح؟

نزل بجبينه فوق جبينها، وآااه عاشقة أخرجها من جوف قلبه، ليهمس بنبضه قبل لسانه:

_أقسم لك..أن أكون لكِ وطنًا حين تضيق الدنيا، وسندًا حين تثقل الهموم.
أقسم أن يكون قلبي لكِ وحدك، وأن أحميكِ من كلِّ ألم.
أقسم أن أحبُّكِ بلا شرط، وأبقى لكِ أمانًا وسكينة…اليوم وكلَّ يوم.

ابتسمت، رفعت يدها على قلبه، وردَّت بصوتٍ خافتٍ لكنَّه حار:

وأنا أقسم لك..أن أكون لكَ دارًا ودفئًا، وأن أحبُّك بلا نهاية…وأن أظلُّ لك دائمًا.

هنا..لم تعد الكلمات تفي بما في القلوب.
تبخَّر الكلام، وسقطت الحواجز..فلم يبقَ إلَّا قلوبٌ تشتعل قبل الأجساد.
العشقُ كان حقيقيًّا، خامًا، صادقًا… يتدفق من الرُّوح إلى الرُّوح، من العين إلى العين، من القلبِ إلى القلب.

دقائق طويلة…
كلُّ نظرةٍ كانت كوميضِ برقٍ يقتل كلُّ صمت، وكلُّ لمسةٍ كأنَّها تسقط على الجسد والروح قصَّةً لا تنتهي.
هو يراها..ليس بعينِ عاشق، بل بعين رجلٍ وجد نصفه الذي انتظره عمرًا، وكلُّ جزءٍ منه صار ملكًا لها.
وهي تشعر..ليس بمجرَّد قرب، بل بانصهار الأرواح..بانفجار الشوق في كلِّ ذرَّةٍ من جسدها ووجدانها.

ثم خرجت منها تنهيدةٌ صغيرة، ارتجفت معها جسدها وكأنَّها تعلن أنَّ الليل شهد أقوى حبٍّ عرفه الزمان.
نظر إليها، وعيناه تحكي مالم يستطع اللسان قوله..ليصبح قلبه صار ملكها وحدها.
اقترب، وضمَّها، ودفن وجهه بين خصلات شعرها، يشعر بحرارتها، ويشمُّ عطراً يشعل كلَّ شعور.

مبروك..حبيبة يوسف.

أغمضت عينيها، وابتسامةٌ صغيرة تلمع بين الخجل والعشق، فلقد حدث ماتمنَّته بهذه الليلة التي أُطلق عليها ليلة العمر…فكانت كلُّ لحظةٍ فيها تتنفس عشقًا، وكلُّ نظرة تتلوَّى بين الشوق والامتنان.
ليصبح الهواء حولهما يشبه نبضهما،  والعيون تقول كلَّ شيءٍ قبل أن تنطق الشفاه.
كلُّ همسة، كلُّ لمسة، كلُّ ابتسامة… كانت قصيدةُ صمتٍ مكتوبةٍ بالقلب، تخاطب الروح قبل الجسد.

في هذا اللقاء النقي، أدركا أنَّ العشق ليس فقط مايُشعر به، بل مايُرى في صمت العين، ويُلمس في قربٍ ينسى معه الزمان والمكان.

نعم فهي ليلة لا تُقاس بالساعات، بل بالقلوب التي تهتزُّ مع كلِّ نبضة، وبالأنفاس التي تتشابك حتى تصبح واحدًا..وليصبح كلُّ شيءٍ بالغرفة شاهدًا على تلك الملحمة، حيث كانت
الشموع تهمس بالدفء، والرائحة تعبِّر عن الحبِّ قبل أن تقول الكلمات، والموسيقى تنساب كأنَّها نغمةٌ سريَّةٌ كتبها القدر خصِّيصًا لهما.

حرَّك أنامله على جسدها، لتغمض عيناها تريد أن تحفر كلَّ شيءٍ بالذاكرة له من كلِّ حركة، كلُّ كلمة، كانت تتسلَّل إلى قلبها، فتشعل فيه نار الشوق والطمأنينة في آنٍ واحد.
عطره، نظراته، لمسات الأصابع..كلُّ ذلك تضافر ليخلق عالمًا خاصًّا بهما، بعيدًا عن كلِّ ماهو خارج الغرفة.
رفعت عيناها لكفِّه الذي يلامس خصلاتها بحنانِ أبٍ قبل حبيبٍ وجدت بهما عشقًا نقيًّا، خالصًا، ليس مجرد رغبة، كما كانت تظن، بل إحساسٌ بالامتلاك والاحتواء، ولحظةُ تلاقي روحين تعرف كلٍّ منهما الآخر منذ الأزل..تذكَّرت 
همسات الحبِّ، والقبلات الرقيقة، ونظراتٍ تبادلها القلب قبل الشفاه، كلُّ ذلك صنع لوحةً من الحنان والوله،
لوحةٌ لا يمكن لعالمٍ أن يفسدها، ولا للزمن أن يمحوها.. 
أغمضت عيناها بعدما تلاحمت النظرات بالكثير الذي يعبِّر عمَّا يشعران به.

نعم صديقاتي فليلة العمر لم تكن مجرَّد ليلة…
بل وعدًا بالحياة معًا، بالأمان، بالعشق الذي يشعُّ من الداخل قبل الخارج.
حيث تكون لحظة يتوقَّف فيها كلُّ شيء…
حتى أنفاسهما صارت تنبض معًا، والقلوب تتحدَّث بلغةٍ لا يفهمها سواهما.
لغةٌ تقول: "أنتَ لي..وأنا لك..الآن وإلى الأبد."
انحنى يهمس إليها بقلبه قبل لسانه:
_ضي إنتي كويسة، حاسَّة بحاجة؟
دفنت رأسها بصدره، وهمست بكلِّ العشق الذي تشعر به: 

_أيوة حبيبي كويسة أوي، وعايزة أنام
ينفع ولَّا محتاج منِّي حاجة؟ 
طبع قبلةً حنونةً على جبينها، قبلةٌ تحكي كلَّ المشاعر الجميلة التي شعر  بها، ردَّ بنبرته الرجولية الهادئة:
_نامي حبيبتي، أنا جنبك. 
دنت أكثر حتى لمست شفاهها صدره، ليطبق على جفنيه يتنفس بصعوبةٍ من فعلتها البسيطة، كيف سيكتفي بتلك الدقائق الذي شعر بأنَّها لحظاتٍ عابرة، ألم يقولوا:
"«لا يكتمل العاشق إلَّا بمعشوقه، ولا يكتمل المعشوق إلَّا بوله العاشق.»
تمدَّد يخفيها داخل جسده، حتى ذهب الآخر بنومه لأوَّل مرَّة دون مهدِّئات، فاليوم أيقن أنَّها مهدِّئه الحي للحياة. 
ورغم نومهما العميق، لكن النوم لم يكن بداية النهاية…
كان لحظةٌ يصدح فيها العشق بأعلى صوته، لحظةٌ تثبت أنَّ هذه الروحين لن تفترقا، وأنَّ كلَّ نظرة، وكلَّ همسة، وكلَّ نبضة قلب، صار لها معنى جديد..معنى أن يكون الحبُّ مطلقًا، صادقًا، خالدًا، يصعب على الزمان أن يمسَّه أو يخفِّفه.

بمنزل إلياس 
كان جالسًا بمقابلة ادم الذي يخبره بما حدث معه منذ عودته، وفتح شركة صغير لابنه 
كان يستمع اليه بفخر فقال
_طول عمرك وانت شاطر غير امانتك يادكتور، والله مكنش ليك الخروج من البلد دي 
قاطعهم دخول بلال ملقيًا السلام 
طالعه الياس بتساؤل
_فيه حاجة ياعمو 
_ايوة.. حمزة الجارحي عايز يقابل حضرتك 
تنهد الياس بعدما علم بما سيقوله، فتابع بلال 
_عمه اسحاق كمان معاه 
قالها بلال بنزل شمس وميرال ودخولهم غرفة المعيشة، اقتربت من ادم بدلال انثوي 
_ازي حضرتك ياخالو
_حبيبة خالو الجميلة.. قالها ورفع عيناه الى الياس 
_وعلشان اللي قولته، حابب نقوي العلاقة بينا ياالياس، ومش هلف وادور عليك 
_بتمنى توافق على نسب بينا، شمس العيلة مع الباشمهندس رائد 
قالها بدخول حمزة واسحاق، اللذان توقفا على تلك الكلمات القاسية على قلب عاشق مجنون بعشقه.. رفع نظره الى شمس التي تقف بأحضان ادم، رمقها بنظرة لو تقتل لألقتها صريعة 

تعليقات