![]() |
رواية ذنوب علي طاولة الغفران الجزء الثاني ( هل من سبيل للغفران) الفصل الثاني بقلم نورهان ال عشري
في قانون العشق: قد نمضي عمرًا بأكمله و نحن نتصارع، أهون علينا مِن أن نخطو خطوة واحدة في طريق الفراق، فالقلوبُ ترى الفراقَ لصًّا متخفّيًا، يقف على أبوابها حائرًا؛ أيطرُق بابها كزائر غير مرغوب به ليُهلكها سالبًا منها نصفها الآخر؟
أم كمحتل غاشم يجتاحها بغتةً ولا يغادرها حتى يتيقّن من أنه ترك فيها ندبةً لا تشفى أبداً؟
بينما الفراقُ يرى نفسَه فارسًا نبيلاً يأبى الخداع، لا يأتي ليهدم، بل ليكشف للقلوب كم كانت تتّكئ على أوهام الحب الزائفة لوقتٍ طويل، و تهفو خلف ضلال طال أمده.
نورهان العشري ✍️
🍁🍁🍁🍁🍁🍁🍁🍁🍁
ـ كمال. أنت فين؟ رد عليا. أنا خايفة أوي.
هكذا كانت آسيا تصرخ وهي تدور حول نفسها في هذا المكان المُظلِم المُخيف، الذي كان خاليًا إلا منها هي و مخاوفها، لتظل تطرق كل الأبواب و الطرق بحثًا عنه إلى أن وجدته يقف في مكان بعيد نسبيًا يطالعها بأعيُن جامدة لا يتوهج بها العشق كما عهدتها و ملامح شاحبة لا تشبه أبدًا ولكنها توحي بثقل ما يحمله داخله لتصرخ بلهفة:
ـ كمال أخيرًا لقيتك.
ـ خليكِ مكانك. اوعي تقربي مني.
هكذا صرخ كمال بعُنف أفزعها ليتساقط الدمع من مقلتيها كالمطر وهي تهتف بتوسل:
ـ أرجوك اسمعني.
التفت إلى الجهة الأخرى وهو يقول بجفاء:
ـ مهما قولتي مفيش حاجة هتتغير. الخيانة ملهاش مبررات.
آسيا بلهفة و نبرة مُستنكرة:
ـ أنا عمري ما خُنتك ولا حبيت حد غيرك في حياتي.
كمال بقسوة:
ـ وأنا عمري ما ندمت على حاجة في حياتي غيرك.
بكرهك يا آسيا. بكرهك. أنتِ طالق. طالق.
هكذا أخذ صوته يعلو و يتردد في الأجواء حتى اخترق سمعها فحاوطت رأسها بيدها وهي تصرخ بألم:
ـ لا يا كمال. لا استنى متقولش كدا. كفاية. كفاية..
قالت جملتها الأخيرة بصراخ أنتشلها من هذا الكابوس المرعب، لتلتفت حولها بأعيُن جاحظة و جبين متعرق و جسد يرتجف بقوة لتندفع أشجان تجاهها تحاوطها بحنو تجلى في نبرتها حين قالت:
ـ آسيا يا حبيبتي. فوقي دا كابوس.
كان جسدها يرتجف كُليًا و كذلك نبرتها حين قالت:
ـ يعني كمال لسه هنا! كمال مطلقنيش صح!
اخفضت أشجان رأسها بحزن قبل أن تقول بأسف:
ـ لا يا آسيا كمال فعلًا طلقك و سافر.
كانت الجملة و كأنها سهم سُدِد إلى قلبها بمنتهى الدقة فبكت بقوة حتى اهتز جسدها و السرير أسفلها لتحاوطها أشجان بذراعيها وهي تقول بمواساة:
ـ اهدي يا آسيا. الدكتور قال أن الإنفعال غلط عشانك.
طافت عينيها في المكان حولها ليتضح أنها بغرفة مشفى فلاحظت أشجان الاستفهام الصامت في عينيها لتقول بحنو:
ـ لما قولتلك الخبر أغم عليكِ و عمر قال لازم ننقلك المستشفى.
آسيا بنبرة تنفطر ألمًا:
ـ ليه؟ كنتوا سبتوني.
انتقلت أشجان لتجلس في مقابلها وهي لازالت تحتوي أكتافها لتقول بجدية:
ـ أنتِ لازم تهدي عشان تقدري تحكيلنا ايه اللي حصل خلى كمال يطلقك و يسافر بالشكل دا. يمكن نقدر نحل الموضوع.
لا تعرف كيف تبدأ و من أين يمكنها الشرح؟ هل تبدأ من تلك الليلة التي قلبت حياتها ولطخت برائتها، و زرعت بذرة الانتقام داخلها! أم تبدأ من عند تلك اللحظة التي اصطدمت بحقيقة عشقها له؟ أم تبدأ من نقطة غبائها و زيارتها لها الرجل!
كل البدايات تُدينها و النهايات لم تنصفها، فلماذا الحديث!
ـ مش عايزة اتكلم. عايزة أنام.
اندهشت أشجان من حديثها، ولم تستطع الصمت لتهتف بحدة:
ـ لا هتكلمي. أنتِ عارفة أنتِ متهمة بأيه؟ متهمة أنك خاينة، و عشان كدا جوزك طلقك و سافر. فوقي كدا و اعرفي أن غصب عنك لازم هتتكلمي.
صُدِمت من حدة أشجان التي كانت جديدة كليًا عليها فناظرتها آسيا بألم ليتناثر الحزن من بين عيني أشجان و نبرتها حين قالت:
ـ حقك عليا. بس أنا مقدرش اسمع الاتهامات دي بتتوجهلك و اسكت. قوليلي أي حاجة أرد بيها غيبتك. اخرس أي حد يتكلم عنك.
جرفتها نوبة إنهيار قوية وهي تصرخ بكل ما يعتمل بداخلها من قهر:
ـ أنا غلطانه بس والله مش خاينة. والله ما خنته. دا هو النفس اللي بتنفسه.
ـ يبقى تحكيلي أيه الغلط اللي ارتكبتيه وصلكوا للنهاية دي.
كان هذا صوت خالد الذي سمع صوت صراخها من الخارج ليندفع إلى داخل الغرفة ليصطدم بحديثها الذي هدأ من غضبه قليلاً.
التفتت أشجان تناظره بتوسل ليقترب منها و يربت بحنو على كتفها وهو يقول بنبرة جامدة:
ـ استنيني بره يا حبيبتي. عايز اتكلم مع آسيا شوية.
كانت عينيه تطمأنها لتوميء برأسها قبل أن تضع قبلة حانية فوق خصلات آسيا التي كان الخوف يلون نظراتها مما جعل أشجان تهمس أمامها بحنو:
ـ متخافيش من حاجه أبدًا. أنا جنبك دايمًا.
خرجت أشجان ليجلب خالد كوب من المياة و يناوله إلى آسيا التي اخذته بيد مرتعشة لترتشف منه قليلًا وهي تراه يتربع فوق المقعد المقابل لمخدعها لتعتدل في جلستها مستندة فوق الوسادة خلفها ليبدأ خالد حديثه قائلًا بجمود:
ـ كمال مشي ليه يا آسيا؟
آسيا بنبرة مُتحشرجة من فرط البكاء:
ـ عايزني أبتدي منين ؟ من أول امبارح ولا من ست شهور لما دخلت الشركة أول مرة و لا من سنتين!
استفز حديثها فضوله كثيرًا ليقول بنبرة خشنة:
ـ من البداية. مش عايز يكون في حاجه معرفهاش.
شردت بنظراتها للبعيد قبل أن تبدأ في سرد وجعها بنبرة مُحتقنة بالألم:
ـ من سنتين بالظبط أنا كنت بكره كمال كره العمى، ومش هو بس. لا كنت بكرهكوا كلكوا. متستغربش! بس بسببكوا انا أتأذيت أكبر أذى في الدنيا.
صمتت لثوان تحاول تجاهل غصة البكاء التي تؤلم حلقها لتُتابع بنبرة مُلتاعة:
ـ ليلة احتفال كمال أنه اتعين المدير التنفيذي للمجموعة كان فرح بنت خالتي و لما ماما طلبت من نبيلة هانم تاخد إجازة عشان الفرح بهدلتها وقالتلها هو أنتِ هتبدي افراحكوا العرة دي على الحفلة بتاعتنا! أنتِ خدامة هنا، و لما نعوزك تكوني موجودة حتى لو بتموتي، و فعلا ماما راحت و الوقت اتأخر روحت اجيبها انا و رؤوف ابن عمي وهناك قابلت ميرهان و هايدي.
كان الغضب يرتسم فوق ملامح خالد بوضوح، ولكنه لم يُعلق لتُتابع قائلة:
ـ كعادتهم فضلوا يتريقوا عليا.
قاطعها خالد مُستفهمًا:
ـ يعني أيه كعادتهم؟
آسيا بسخرية مريرة:
ـ عشان على طول بيعملوا كدا. بيتريقوا عليا اني بنت الخدامة، و بيعايروني أن والدك الله يرحمه هو اللي مدخلني الجامعة دي بفلوسه.
اكفهرت معالمه من حديثها، ولكنه تحدث باختصار:
ـ كملي.
آسيا بنبرة تتضور وجعًا:
ـ اليوم دا زودوها اوي، ضربوني و قطعولي هدومي، و شتموني بأبشع الألفاظ. داسوا على كرامتي و عروني، و مش بس كدا. دول حاولوا يشوهوني بضوافرهم، و اللي أنقذني من أيديهم خروج كمال اللي فضل ينادي عليهم، و طبعّا كالعادة لبسوا وش الملايكة قدامه، حتى أنه شاف دمي على أيديهم بس هما قالوله دي قطة مجروحة صعبت علينا و كنا بنساعدها. تخيل أنه كان خايف عليهم لا يتأذوا من حيوانات الشوارع و نبه عليهم ميقربوش منهم تاني. و حب بقى و احضان و دلع، وانا مرمية على الأرض غرقانه في دمي و دموعي.
تبدد الغضب فوق ملامحه إلى صدمة لتهتف آسيا بنبرة تحترق قهرًا:
ـ كرهته معاهم، و حلفت لا هندمهم كلهم على اللي عملوه فيا، و عدة سنتين وانا لسه منستش ولا حتى قدرت أتجاوز. لحد ما اتخرجت و حضرتك عينتني في الشركة. يومها قررت أبدأ في انتقامي منهم، و أولهم كمال. عدت الأيام و لقيت نفسي بغرق في مشاعر مش فهماها و عقلي رافضها. أنا حبيته، و لما حبيته حاولت ابعد بس هو مدانيش فرصة، وكنت كل ما اتقابل مع ميرهان كانت بتوجعني بكلامها و إهاناتها. أنا حاولت امشي. حاولت أوقف بس هما مدونيش فرصة.
قالت جملتها الأخيرة وهي تبكي بحرقة لتمتد يد خالد بأحد المحارم الورقية تناولتها منه بأيدًا ترتجف ألمًا لتحاول محو عبراتها الغزيرة قبل أن تتابع بنبرة يتخللها الندم:
ـ و عشان أكون صريحة معاك اكتر. كمال كان فرصة العمر. منها احقق انتقامي، وأبقى اعلى منهم، واخلي الإيد اللي كانت بتطبطب عليهم هي اللي تقسى و توجع زي ما وجعوني، و كمان ابقى آسيا هانم. أعيش حياة كريمة في مستوى اجتماعي مرموق. مش هعفي نفسي من الغلط ولا هلبس توب الملايكة. أنا كنت وصولية و طماعة.
بكت بحرقة قبل أن تتابع بنبرة يفوح منها رائحة القهر:
ـ بس كمال مكنش يستحق مني كدا. دا مفيش حاجة حلوة ممكن تتعمل معملهاش عشان يفرحني. خلاني أحس اني نسيت الماضي. رجعنا من شهر العسل وانا طايرة من الفرح. لحد ما جت نبيلة و حضنتني وهي بتقولي مبروك يا بنت الخدامة، نار الغضب و الانتقام شعللت في قلبي وحلفت اني اكمل في انتقامي.
خالد بجفاء:
ـ و كملتِ؟
آسيا بنبرة صادقة:
ـ لا . والله ما أذيت حد فيهم. لكن هما أذوني. مبطلوش يوم يأذوني.
خالد باستفهام:
ـ عملوا ايه؟
آسيا بحزن:
ـ رؤوف ابن عمي. دا كان أقرب صاحب ليا، وكان في مشاعر بيني وبينه بس انا مصرحتش بيها. فضلت كتماها في قلبي عشان رؤوف مكنش طموحي، وقدرت فعلًا اتغلب عليها. بس هو لا، و لما قالي أنه عايز يتجوزني هربت، و حاولت أوصله اني رافضه من غير ما اجرحه. مكنش لسه حصل حاجة بيني وبين كمال، و يوم فرحي اتفاجئت برؤوف جايلي و اتهمني اني مابحبش كمال بحب فلوسه، وسألني لو كان كمال في مكانه وهو في مكان كمال كنت هقبا اتجوز كمال بردو!
التفتت تناظر خالد وهي تقول بصدق:
ـ رديت عليه وقولتله إني هتجوز كمال في كل الظروف عشان بحبه، و كنت صادقة في كلامي، مكنش اعرف ان في مؤامرة قذرة بتتعمل عليا بينه هو و ميرهان!
خالد بترقب:
ـ وهو ايه علاقته بميرهان؟
آسيا بنبرة مغلولة:
ـ كانت بترسم عليه لأنها فكرتني بحبه، و كانت عايزة تكسرني بيه، والحقيقة اني اتقهرت لما عرفت أنه مشاركها في مكتب هندسي، و اتقهرت اكتر و أكتر لما عرفت أن في علاقة بينهم. بس مش علشان بحبه أقسم بالله. بس متخيلتش أنه يحط إيده في إيد الإنسانة اللي أذتني الأذى دا كله. هو كان أكتر واحد شايف هي عذبتني ازاي!
اسودت ملامحه من فرط الغضب، و أصبحت عينيه كالحمم البركانية التي تهدد بالانفجار في أي لحظة و كذلك كانت نبرته قاسية حين قال:
ـ ما أنتِ اتجوزتي اخوها.
آسيا بلهفة:
ـ بس أنا اكتشفت أن كمال مش زيهم، ولا عمره كان هيقبل باللي حصل معايا دا.
اومأ خالد برأسه قبل أن يقول بجفاء:
ـ كملي.
آسيا بنبرة مُشجبة:
ـ روحت لرؤوف المكتب و اتخانقنا سوى، و لومت عليه ازاي يعمل كدا و يحط ايده في إيدها بعد ما أذتني الأذى دا كله، و هناك اتخانقنا و رجعت وانا كلي ندم اني روحت، و من غبائي لما شوفت ميرهان بتكلمه في التليفون حبيت اعرفها أنها مكسرتنيش و قعدت أخبط في الكلام، و قولتلها اني اتجوزت كمال عشان أذلها، و هو سمعني، و ميرهان قالتله اني روحت لرؤوف المكتب، و إني خاينة، واتضح كمان أن رؤوف كان بيسجلي يوم الفرح و قص الجملة اللي بقوله فيها اني بحب كمال و هتجوزه تحت أي ظرف، وبعته لمريهان وهي سمعته لكمال، و من وقتها مشفتوش تاني.
بلغ الأمر قمة الوقاحة من وجهة نظره من كلا الجهتين، و خاصةً شقيقاته الاغبياء، ولكنه لم يعفيها هي الأخرى من اللوم ليقول بنبرة قاسية:
ـ أنتِ شايفة نفسك غلطانه يا آسيا؟!
آسيا بنبرة تتضور وجعًا:
ـ غلطانه و استحق الموت.
خالد بجفاء:
ـ عارفة غلطك فين؟
ـ غلطت اني مشيت ورا انتقامي، وسمحتلهم يوصلوني للنقطة دي، غلطانه عشان روحت لرؤوف يومها. بس والله أنا ما خونته أبدًا و عمري ما حبيت غيره.
بلغ الغضب منه مبلغه، فهنض من على المقعد وهو يقول بقسوة:
ـ غلطك الأساسي من بدأ يوم ما ضربوكي يوم الحفلة، و مصرختيش و فضحتيهم، وأنتِ شوفي كمال وقتها هيعمل فيهم أي وهياخد حقك ازاي!
لم يعطها الفرصة للرد عليه بل تابع بحدة افزعتها:
ـ غلطتي لما مستكفتيش بكمال و حبه و طمعتي انك تكملي انتقامك، بالرغم من أن ربنا كرمك في شغلك و دراستك و حب كمال ليكِ، و سمحتيلهم يجروكي للقرف دا.
حاولت الحديث فصرخ بحدة جمدتها بمكانها:
ـ غلطتي عشان محترمتيش الراجل اللي أنتِ شايله اسمه، و روحتي تقابلي واحد تاني أيًا كانت أسبابك. تعاتبيه ليه و عشان أيه! يخصك في أيه يشارك ميرهان ولا يولعوا اللتنين!
كان مُحقًا في حديثه للحد الذي أشعرها برغبة قوية في التلاشي من فرط الحرج و الألم ليهتف خالد بشراسة أفزعتها:
ـ أنتِ و هما شبة بعض. لا أنتِ تستحقي زوج زي كمال، ولا هما يستحقوا أخ زيه، و النهاية أخويا مشي و مش عارف هو فين ولا حالته أيه بسبب ناس تافهه و أنانية زيكوا.
تعالت شهقاتها مما جعل أشجان تهرول إلى الداخل لتُصدم من مشهد آسيا التي انفجرت في بكاء مرير لم يردع خالد عن الحديث بجفاء:
ـ كمال قبل ما يمشي حب يحققلك أمنيتك، و كتبتلك شيك باتنين مليون جنية مهرك و مؤخرك، و قال للمحامي يديلك كل حقوقك. شوفتي بقى كمال اللي كرهتيه عشان فكرتيه زيهم فكر فيكِ ازاي! حتى و أنتِ دبحاه كان بيفكر فيكِ بردو.
ارتجت الجدران إثر بكائها مما جعل أشجان تهتف بتوسل:
ـ خالد.
قمع باقي كلماته وهو يضغط على أسنانه بعُنف حتى كاد أن يطحنها، فأخذ يطلق أنفاسًا قوية تحرق جوفه من الداخل، قبل أن يلتفت مرة أخرى إلى آسيا قائلًا بجفاء:
ـ مبروك يا آسيا. خدتي حقك تالت و متلت و انتقمتي مننا كلنا. حقك تفرحي مش تعيطي.
رفعت رأسها تناظره بألم، ولكن كلماته كانت تحمل معنًا مُستتر لتقول بلوعة:
ـ أنا منتقمتش غير من نفسي.
خالد بشراسة:
ـ متقلقيش الكلاب الباقيين ربايتهم عندي أنا.
فزعت أشجان من جملته و خاصةً عندما انطلق إلى الخارج لتهرول خلفه وهي تصرخ بفزع:
ـ خالد. استنى يا خالد هتعمل أيه؟
خالد بصراخ اهتز له جسدها:
ـ ورحمة أمي لا اللي هعمله فيهم ميتخيله عقل. بس الصبر.
أشجان بذعر:
ـ طب أهدى. أهدى بس و خلينا نطمن على كمال الأول.
عند ذكرها لاسم شقيقة اكتظت جفونه بالألم لتنفلت منهم دمعة غادرة غافلت كبريائه و ثباته كما جاءت نبرته جريحة حين قال:
ـ كمال ميستحقش حد فيهم. أخويا مش هيمشي كدا غير لو الأذى فاق قدرته على التحمل.
اقتربت أشجان تعانقه بشفقة وهي تهمس بطمأنة:
ـ أن شاء الله هيرجع يا خالد. يوم ولا يومين وهيرجع هيروح فين.
ألقى بنفسه و بكل هذا الثقل الذي يرسو فوق صدره في أحضانها وهو يقول بنبرة تئن من فرط الألم:
ـ مش بالسهولة دي. آخر مرة كمال مشي فيها كانت بعد موت بابا. فضل سنة غايب، و محدش يعرف هو فين. سنة كاملة واحنا بنتعذب من القلق و الخوف عليه.
حاوطته بقوة وهي تبكي بألم و احساس قوي بالذنب يجتاحها ليتضاعف احساسها حين سمعته يقول بنبرة جريحة:
ـ كمال مش بس أخ. كمال سند عارف اني لو في يوم وقعت هيكون هو عكازي.
تعالت شهقاتها لترتد إلى الخلف وتقوم باحتضان وجهه بين يديها وهي تهتف بطمأنه:
ـ هيرجع يا حبيبي. زي ما رجع قبل كدا. لو في حد في الدنيا كمال ممكن يرجع عشانه هو أنت.
أومأ برأسه قبل أن يتراجع عنها وهو يحاول محو آثار ضعفه ليقول بجمود:
ـ روحي شوفيها و خليكِ جنبها لحد ما ارجع.
كعادته بتر اعتراضها و التفت مغادرًا ليقوم بجذب هاتفه يجري مكالمة، و ما أن أتاه الرد حتى صرخ بلهجة آمرة:
ـ اسمعني كويس يا عابد. ميرهان، نبيلة، هايدي، عز الدين مفيش مخلوق منهم يخرج بره القصر النهاردة، ولو عز الدين فتح بقه قوله خالد الوتيدي بيقولك لو خرجت من البيت مش هتدخله تاني.
اللهم اجعل السعادة دائمة في حياتنا، اللهم ابعد عنا الحزن والضيق، وفرج همومنا، واشرح صدورنا، وتقبل أدعية قلوبنا"، و"اللهم ارزقني سعادة لا تزول، وفرحًا يأتي من عندك، ويسر أمري، وبارك لي في وقتي"، وأيضًا طلب العفو والعافية في الدنيا والآخرة. ♥️
★★★★★★★★
كانت تجلس فوق المقعد تحتضن جسدها بخوف، فقد استيقظت لتجده غير موجود، فاجتاحتها موجة هلع كبيرة أن يكون حصل له شيء، فهي لم تعد تمتلك في هذا العالم سواه، لتنخرط في نوبة بكاء حارة لم يقطعها إلا صوت قفل الباب يدور لتهب من مقعدها حالما رأته و تندفع إلى أحضانه وهي تصرخ بانفعال:
ـ ياسر.
حاوطها ياسر بقوة وهو يهتف بلهفة:
ـ مالك يا غنى في ايه؟
غنى بنبرة ترتجف ألمًا:
ـ كنت فين يا ياسر ؟ أنا موت من الرعب عليك.
أطلق أنفاسه المحبوسة وهو يشدد من احتوائها بين يديه وكأنه يمتص خوفها قبل أن يقول بنبرة خشنة:
ـ كل دا عشان اتأخرت عليكِ شوية! وقعتي قلبي يا غنى.
غنى بعتب:
ـ شوية أيه؟ دا انت من الفجر و انت نازل، انا اترعبت قولت جرالك حاجة بعد الشر.
امتدت أنامله الحانية تمحي عبراتها بلُطف تجلى في نبرته حين قال:
ـ متخافيش يا حبيبتي. أنا كويس.
عبأ صدره بالهواء النقي قبل أن يقول بنبرة مُتحشرجة:
ـ عشان أنتِ موجودة بس يا غنى انا كويس.
ابتسامة بسيطة مزقت قناع الألم الذي يخيم على ملامحها، فيفقدها رونقها لتمتد يدها تعانق ذراعه وهي تجذبه ليجلس على الأريكة لتعانق كفوفه بحنو تجلى في نبرتها حين قالت:
ـ أنا دايمًا موجودة عشانك. اطمن.
مد يده ليلامس خصلة هاربة تتمايل فوق جبهتها قبل أن يقول بنبرة خافتة:
ـ بقالي كتير بلف في الشوارع. عمال أسأل نفسي ليه و ازاي؟ و أيه كمية الظلم اللي حصلنا من أقرب الناس لينا دا؟ ولما ملقتش إجابة لقيتني بقول الحمد لله انك هنا.
غنى بنبرة جريحة:
ـ أكتر حاجة توجع في اللي حصلنا دا أنه كان من اقرب الناس لينا. احنا ليه حصل معانا كدا؟
لم يحاول منع عبراته من التدفق لتتحشرج نبرته وهو يتابع:
ـ متقوليش الكلام دا. احنا ربنا رحيم بينا أوي على فكرة.
ضيقت عينيها باستنكار ليُتابع بأسى:
ـ اللي عملته هيام دا كسر ضهري. مش هقدر أنكر. بس لو مكنتيش جنبي مكنش زماني قدرت أقف على رجلي تاني.
غنى بحُب:
ـ أنا جنبك على طول. أصلًا ماليش مكان غير جنبك. أنا بس كل اللي واجعني. هل هنقدر نتخطى اللي حصل! هنقدر نبص في وشهم يا ياسر؟! هقدر اتعامل مع ماما عادي! و انت هتقدر تبص في وش هيام تاني!
وضعته وجهاً لوجه مع هذا الاستفهام الذي نهش روحه بلا رحمة، فأخذ يهيم في الطرقات بحثاً عن إجابة بإستطاعتها تهدئة أنين قلبه، ولكن لا الإجابة جاءت ولا الأنين هدأ! فكيف يتخطى الإنسان الضربة التي جاءت من أكثر موضع للأمان بالنسبة إليه! و أي دواء هذا الذي يُجدي نفعًا مع طعنة غدر جاءت من أولئك الذين ظنناهم خلاصًا فصاروا هلاكًا!
جاءت نبرته قاطعة حين قال:
ـ لا، و مش مضطرين نعمل دا. اللتنين شافوا وجعنا بعنيهم، و محدش فيهم اتهز في شعره. يبقى احنا كمان مش هنحطهم في حساباتنا تاني.
لا إراديًا احتمت بصدره من ذلك الألم الذي نهش روحها ليحتويها في اعتذار صامت عن كل هذا الوجع الذي تجلى في نبرتها حين قالت:
ـ طيب هنروح فين؟ هتفضل قاعدين في فندق كدا على طول!
نثر عشقه فوق خصلاتها قبل أن يقول بنبرة صارمة:
ـ لا يا غنى مش هنهرب.
تراجعت عنه تنظر إليه بعدم فهم ليُتابع موضحًا:
ـ أيوا مي هنهرب. هنرجع تاني الحارة، و هنعيش هناك. بس لوحدنا. في بيت أبويا.
توسعت عينيها من الصدمة ليُتابع بجمود:
ـ عشان نبقى على نور أنا مش هاخد حاجة من فلوسي اللي مع جابر. عشان أساساً هي فلوس هيام. دا كان مهرها من جابر، و دا اللي بدأنا بيه الشراكة سوى، ولا هاخد مليم من ورث ابويا الله يرحمه. مش بعد ما اتجنوا عليه و ظلموه و قهروه اخد فلوسهم كدا عادي. أنا هبدأ من الصفر يا غنى. عارفة يعني أيه من الصفر!
صمت يتابع وقع الحديث على ملامحها ليُكمل بنبرة مُتحشرجة:
ـ قبل ما تقرري اذا كنتِ معايا ولا لا لازم تعرفي أني مش هقدر اوفر لك كل الرفاهية اللي كانت في البيت هناك، ومقدرش اوعدك كمان إني هملى إيدك دهب ولا هملى دولابك حرير و هدوم عالموضة.
شدد من احتضان يديها قبل أن يُتابع بنبرة صادقة يجيش بها العشق الخالص الذي يحمله في قلبه تجاهها:
ـ كل اللي اقدر اوعدك بيه. اني أشيلك فوق راسي، و بين رموش عنيا، و هتقي ربنا فيكِ، و ابديكِ على نفسي في كل حاجة، وعمري في يوم لا ههينك ولا هندمك انك اختارتي تكملي معايا. قولتي ايه يا غنى معايا؟!
كانت عينيه تتوسلانها بالقبول، تعدها بعشقٍ خالص لا يشوبه وجع ولا يخالطه خذلان. يرتجي من قلبها تجاوز منحنى الفراق و السير معه في درب الحياة حتى يستطِع إكمالها، و لأنه كانت أمنيتها الوحيدة و الدائمة مدت يدها تلامس وجهه بحنو وهي تقول بابتسامة عذبة:
ـ قولت إني غنى ملهاش حياة من غيرك يا ريس.
لم يُصدق حديثها الرائع ليقوم باعتقاله بجانب صدره، وهو يهتف بنبرة عاشقة:
ـ ياروح قلب الريس.
تنهيدة قوية خرجت من جوفه، فقد كانت السبيل الوحيد لنجاته وسط كل هذه الطرق الموحشة، ليشدد من احتوائها أكثر وهو يهمس بجانب أذنيها:
ـ بحبك يا غُريبة.
ابتسامة عذبة اعتلت ثغرها وهي تُجيبه بخفوت:
ـ قلب الغُريبة.
مرت لحظات من السكون و الهدوء بينهم كانت هي آمنه بين جنبات صدره و هو آمن بوجودها إلى أن تراجع ينظر إليها و هو يقول:
ـ يالا عشان نرجع. مبقاش له لزوم لقُعادتنا هنا.
تشابكت الأيدي و تعانقت القلوب بعد أن هدأ ضجيج الألم قليلًا ليمر وقت ليس بطويل قبل أن يوقف ياسر السيارة أمام بيتهم القديم، و يترجل منها وهي كذلك لتمتد يده لتحتضن يدها وهو يتوجه إلى بداية طريقهم، و إذا به يتفاجيء حين وجد يزيد يجلس على عتبة الباب الخارجي واضعًا رأسه بين يديه لتبادل الثنائي النظرات المدهوشة في أن يقول ياسر بصدمة:
ـ يزيد! بتعمل ايه هنا؟!
هل يزيد من مكانه ينظر إلى شقيقه نظرة شمولية وكأنه يطمئن عليه و يروي قلبه من رؤيته قبل أن يذم شفتيه وهو يقول بتوبيخ:
ـ لسه فاكر تيجي يا بيه انت وهي؟! اتأخرتوا كدا ليه؟
توسعت أعينهم من حديثه لتهمس غنى بخفوت:
ـ هو ماله دا! اتهبل ولا أيه؟
هتف يزيد بتقريع:
ـ سمعتك على فكرة. لا ياختي متهبلتش. فسحي كدا.
قال جملته وهو يقترب منهما لتبتعد عن ياسر مدهوشة ليرتمي بين أحضان شقيقه يعانقه بقوة، و كأنه لا يصدق أنه يراه سالمًا، و بالمقابل بادله ياسر العناق الشوق بالشوق، و اللهفة باللهفة، فقد كان يعتبره ابنًا وليس أخ
ـ كدا بردو يا ريس! تاخد الصفرا دي و تمشي و تسيبني! تسيب يزيد حبيبك، محستش أن في حاجة واقعة منك طيب ترجع تاخدها.
رغمًا عنه ضحك ياسر على حديقه قبل أن يقول بتقريع:
ـ مين دي اللي صفرا ياد أنت؟!
يزيد بمرح:
ـ خضرا طيب! أي لون المهم تضحك.
غنى بحنق:
ـ ليه بطيخة يا ظريف؟!
يزيد بنبرة تمتثل إلى الأدب:
ـ مش هرد عليكِ عشان الريس واقف. اصبري بس لما يبقى مش هنا.
ياسر باستفهام:
ـ هتعمل ايه وانا مش موجود أن شاء الله ؟!
ـ سيبك منها بس خلينا نعيش اللحظة من تاني. دانا محضنتكش من وانا في رابعة ابتدائي.
ابتسم ياسر على حديثه، و قام بالربت على كتفه وهو يقول:
ـ طب تعالى ندخل جوا بدل ما تفرج الناس علينا.
غنى بسخرية:
ـ أنا بقول كدا بردو.
يزيد بتهكم:
ـ وتقولي ليه؟ أخ و أخوه بيقولوا تدخلي ليه أنتِ.
غنى بحدة:
ـ عشان دا جوزي يا خفيف.
يزيد بتهليل:
ـ سيدي يا سيدي. جوزي بقى و حركات. اي نعم بتقول جوزي قدامي من غير كسوف ولا احراج. بس بتحبك. والله العظيم البت دي بتحبك وأنا بحبك. وربنا بحبك أكتر منها.
نجحت كلماته في جعل الضحكة تعرف طريقها إلى ثغر ياسر، فابتسمت غنى في المقابل وهي تجلس على الأريكة القديمة التي تتوسط الصالة الصغيرة ليبدأ يزيد في الحديث هذه المرة ولكن كانت الجدية تلون ملامحه حين قال:
ـ حقك عليا يا ياسر. حقك على راسي في اللي حصل.
شعرت غنى بأنها يجب عليها أن تُفسِح لهم المجال للحديث على انفراد، فتمتمت بخفوت:
ـ اقعدوا اتكلموا انتوا براحتكوا على ما استكشف البيت.
أوقفها حديث يزيد حين قال:
ـ بقولك أيه استني.
التفتت تناظره باهتمام ليُتابع مازحًا:
ـ في خمسين قرش من أيام القدماء المصريين أنا عاينها تحت المخدة اوعي تطمعي فيها..
نجح في تبديد الاحراج الباد على ملامحها وجعلها تضحك بقوة ليُتابع بأسف حقيقي:
ـ حقك عليا أنتِ كمان يا غنى. عارف ان أعتذاري دلوقتي مش هيغير حاجة. بس دا ابسط حق ليكِ.
ناظرته بامتنان تجلى في نبرتها حين قالت:
ـ بالعكس. اعتذارك دا له قيمة كبيرة أوي عندي.
رغمًا عن كل شيء ولكن هناك شيئًا اهتز داخله و بقوة من موقف شقيقه الأصغر و اعتذاره لها ليربت بحنو على فخذه قبل أن يقول:
ـ طول عمرك راجل يا يزيد.
يزيد بنبرة يتخللها الفخر:
ـ طبعًا مش تربية الريس ياسر الوتيدي.
ياسر بنبرة حانية:
ـ خلتني فخور بيك فعلًا.
يزيد بمرح:
ـ لا و لسه الفشخرة جاية متقلقش.
ابتسم ياسر على حديثه وهو يقول بجدية:
ـ عرفت منين أن انا جاي هنا ؟
يزيد بهدوء:
ـ عشان هنا أصلنا، و مرجوعنا. بيت أبونا يا ياسر، وانا عارف البيت دا غالي عندك قد أيه؟
ياسر بشجن:
ـ حسيت اني عايز أبدأ منه.
يزيد بتشجيع:
ـ عين العقل. رجوعك لبيتك و لحتتك بعد اللي حصل دا دليل انك قوي و عايز تقف على رجلك من تاني، و هتعمل دا انا واثق فيك.
ياسر بهدوء:
ـ ياريت كل الناس تكون زيك.
يزيد بقوة:
ـ حتى لو مش كل الناس زيي. أنا في ضهرك، و مش هسيب حد ييجي عليك تاني.
ياسر بنبرة يفوح منها رائحة الحزن:
ـ المشكلة أنها حرب غير متكافئة يا يزيد. تخيل لو حد تاني اللي عمل كدا انا كنت عملت في أيه؟!
قست نظراته و نبرته حين قال:
ـ الله في سماه كنت ساويته بالأرض.
ربت يزيد فوق ركبته محاولًا تهدئته حين قال:
ـ ربنا أراد يبتليك عشان بيحبك، و صبرك على الأذى دا هتؤجر عليه يا ريس مش انا اللي هقولك.
أما بالنسبة لهيام. سيبهالي. أنا هعرفها غلطها.
ياسر باستهجان:
ـ ليه هي مش عارفة أنها غلطت ولا ايه؟
صمت يزيد يسترجع جملتها التي ألجمته من فرط الصدمة:
ـ لا مغلطتش، دي واحدة أتمننت ببنتها عليه، و عايرتنا و هانتنا، و تستحق اللي شافته في جوازة بنتها دا عقاب من ربنا على اللي عملته فينا و فيه، ولو رجع بيا الزمن هعمل كدا تاني.
ادعى يزيد اللامُبالاه حين قال:
ـ مش فكرة متعرفش أنها غلطت. فكرة أنها شيفانا نخصها. ولادها اللي مفروض نسامحها لو عملت فينا ايه..
هل ياسر من مكانه، وهو يصيح باستنكار:
ـ ولادها! وفي أم تعمل في ولادها كدا؟! بإيديها تأذيهم، و تغدر بيهم؟!
يزيد في محاولة لتهدئته:
ـ أهدى يا ياسر، و شيل هيام من حساباتك خالص. فكر في نفسك، وشوف هتعمل ايه و هتبتدي منين، دا الأهم دلوقتي.
انتهى من الإطمئنان على ياسر ليتوجه إلى البيت الكبير، فوجد هيام تقابله بلهفة تجلت في نبرتها حين قالت:
ـ لقيته يا يزيد؟!
يزيد بجمود:
ـ لقيته.
ـ طب هو فين؟
يزيد بجفاء:
ـ مش هقولك يا هيام.
هيام بصدمة:
ـ كدا يا يزيد؟ مش عايزني أشوفه وانت عارف انا قلبي محروق عشانه ازاي ؟!
يزيد بجمود:
ـ أيوا مش عايزك تشوفيه بس عشان عارف هو قلبه محروق بسببك ازاي؟!
هيام بتوسل:
ـ طب قولي بس هروح أشوفه و اطمن عليه.
يزيد بعناد:
ـ لا، وخلي بالك أن انا اللي هقفلك لو فكرتي تروحيله.
برقت عينيها من شدة الصدمة لتهتف دون وعي:
ـ هتقف قدامي يا يزيد؟
يزيد بجفاء:
ـ أيوا هقف قدامك. كفاية أوي اللي عملتيه فيه، و اللي حتى مش ندمانه عليه ارحميه بقى….
قاطعته هيام بصفعة قوية جعلت رأسه يدور الى الجهة الأخرى ..
اللهم سخر لي من حظوظ الدنيا أجملها، ومن السعادة أكملها، ومن الناس أخيرهم، واجعل قلبي متعلق بك لا يرى سعادته إلا منك".
★★★★★★★★★★
عادت من المشفى بعدما اطمأنت على آسيا، وقد قررت أنها لن تبقى في هذا المنزل الملعون دقيقة واحدة، ستأخذ شقيقتها و تغادر قبل أن تخسر المزيد من ثباتها و كرامتها، لتتوجه إلى الأعلى مرورًا بنبيلة التي كانت تحتسي كوب من القهوة في الصالون الواسع، و ابتسامة عريضة تلون ثغرها، فقد عرفت من ميرهان ماذا حدث بين كمال و آسيا، وأيضًا سمعت هذا الخبر السعيد حين سمعت سعاد وهي تصرخ في عمر صباحًا:
ـ هتندم يا عمر. طلاقك لشروق دا مش هيعدي بالساهل. هترجع تقول ياريتني، و تترجاها بس تبص في وشك، ولا هتسأل عنك.
شاهدتها نبيلة تتجاوزها و تصعد إلى الأعلى لتهتف بسخرية:
ـ شروق. قلبي عندك يا حبيبتي. سمعت أن عمر ابني طلقك!
توقفت شروق بمنتصف الدرج وهي تحاول كظم غيظها قبل أن ترسم ابتسامة هادئة على شفتيها وهي تلتفت قائلة:
ـ قلبك عنده هو يا طنط مش عندي. أصله بصراحة كان رافض و طلع عيني عشان اخلص منه. هو أولى بالمشاعر النبيلة دي مش أنا.
توسعت عيني نبيلة من حديثها و خاصةً أنها غادرت إلى الأعلى لتتركها تغلي من شدة الغضب الذي تبدد حين رأت عز الدين الذي كان يصرخ بهياج:
ـ هو مفكر نفسه مين عشان يمنعني من الخروج؟!
هرولت نبيلة لتقابله وهي تقول بلهفة:
ـ حصل أيه يا عز الدين؟!
عز الدين بانفعال:
ـ خالد بيه أخوكي. مانع حد أنه يخرج من البيت لحد ما ييجي! شكله اتجنن على الآخر..
نبيلة بلهفة:
ـ طب أهدى يا حبيبي. يمكن خايف علينا ما انت شوفت حصل أيه مع رنا.
عز الدين بغضب:
ـ بلا إهدى بلا زفت.
لم يكد يُنهي جملته حتى سمعوا احتكاك قوي لإطارات سيارة و صوت خالد الجهوري كالرعد على أسماعهم:
ـ ميرهان..
عند سماع اسمها بتلك الطريقة هرولت ميرهان للأسفل وهي تعدو كالشاة التي تفر من الذ.بح لتحتمي بنبيلة التي ارتجف جسدها حين رأت مظهر خالد المرعب و الذي هتف بسخرية:
ـ الله الحرابي كلهم متجمعين ؟! اومال فين التالتة بتاعتكوا؟ راحت في أنهي داهية ؟!
قال جملته الأخيرة بصراخ افزعهم ليهتف عز الدين باستنكار:
ـ أنت ازاي تتكلم عن بنتي بالشكل دا؟! أنا مسمحلكش.
خالد بشراسة:
ـ انت مين عشان تسمح ولا متسمحش. وبعدين مالك فخور أوي كدا بنتك. بنتك دي مشافتش تربية. عايزة الضرب بالنار.
نبيلة بنبرة ترتجف خوفًا:
ـ أهدى يا خالد بس و قولنا حصل ايه؟
توجه خالد ليجذب ميرهان من خصلاتها بعُنف وهو يهتف بغضب يتخلله صرخاتها:
ـ هتقولي أنتِ عملتوا أيه في آسيا في الجنينة يوم حفلة كمال، ولا أقول انا؟! هتقوليلها خربتي حياة اخوكي ازاي ولا اقول انا؟!
كانت ميرهان تنتفض أسفل يديه من فرط الألم و الخوف وهي تنتحب قائلة:
ـ والله يا أبيه كذابة. أنا..
مالت صفعة قوية من خده تلاها صراخه المرعب:
ـ و كمان بتحلفي بربنا كذب. أنتِ ايه شيطانة!
تسمرت شروق و من خلفها جميلة وهم يروا ما يحدث ليلاحظ خالد وجودهم و تلك الحقيبة التي بجانبهم ليهتف ساخرًا:
ـ طبعًا انتوا ناويين تطفشوا من وكر التعابين اللي عايشين فيه؟!
جاء صوته شروق جامدًا على عكس أنين قلبها:
ـ أنا أطلقت انا وعمر.
عض على شفتيه بغيظ تحول إلى سخرية حين قال:
ـ صح هي دي المعادلة المظبوطة. مينفعش البيت دي يكون في بذرة خير واحدة. عشان كدا محدش فينا لام على أمك لما مشيت زمان.
صرخ عز الدين بانفعال:
ـ لا انت زودتها أوي، و ناسي أن البيت دا له راجل ؟!
خالد باستنكار جارح:
ـ هو فين الراجل دا؟! هو اللي مراته تمشيه يبقى راجل؟! و على فكرة بقى اللي متعرفهوش. أنا اني كنت وكيل نسمة في كتب كتابها، نسمة مهربتش ولا حاجة. نسمة نفدت بجلدها منكوا، و الست مراتك كانت عارفة بس اختارت تستغفلك، وانت من غبائك مفكرتش تدور وراها.
أنهى جملته التي كان وقعها مريعا على عز الدين الذي ارتمى جالسًا على المقعد خلفه، انا أعيُن نبيلة المصدومة ليتجاهلهم خالد و يلتفت موجهًا حديثه
إلى شروق:
ـ سيبي الشنط و أسبقوني على العربية.
اطاعته شروق ليأمر أحد الحرس بأخذ حقائبهم الى السيارة و يلتفت إلى نبيلة و عز الدين قائلًا باحتقار:
ـ طلقتي شروق، و آسيا و طفشتوا كمال؟! مش متفكروش أن اللي حصل دا هيعدي بالساهل؟! ألاقي كمال بس و كله هيتعاقب.
أنهى جملته و جر ميرهان من خصلاتها التي لازالت أسيرة قبضته الغير رحيمة وهو يهتف بوعيد:
ـ أما أنتِ بقى، فربايتك هتبدأ من النهاردة.
أخذت تصرخ وهو يجذبها خلفه ليتوقف أمام باب القصر وهو يقول بتحذير:
ـ خلي بالك لو عقلك وزك و فكرتي تقربي من أشجان. هيكون موتك حلال بالنسبالي.
لم ينتظر أي إجابة كعادته، و توجه بميرهان جرًا ليُلقي بها على أرض الصالة الواسعة، وهو يزأر بوحشية:
ـ اللي زيك بقى لازم يعيش عيشة الخدامين اللي ياما هانهم، و داس على وجعهم. من هنا ورايح مفيش خروج غير بأذني، ومفيش عربية، و كريديت كارد، و هتقعدي تاكلي في المطبخ معاهم. سامعة؟!
ميرهان بذُعر:
ـ سامعة. سامعة والله.
خالد بتحذير:
ـ ولو سمعت ولا عرفت انك ضايقتي واحدة فيهم بحرف، ومنفذتيش أمر من أوامري يا ويلك يا ميرهان مني.
أخذت تتراجع إلى الخلف وهي تصرخ كالمذعورة:
ـ حاضر.
كان الخدم يقفون على أعتاب المطبخ ليصرخ بهم:
ـ كلامي واضح ليكوا أنتوا كمان؟
اومأ الجميع برأسه دلاله على الموافقة ليتوجه إلى الأعلى لغرفة ميرهان و يقوم بإخراج ملابسها من الخزانة ليتوجه إلى الخارج و يقوم بإلقائها من أعلى الدرج وهو يزأر بوحشية:
ـ هدوم الرقاصات دي يتولع فيها و تترمي في الزبالة سامعين؟!
الجميع في آن واحد:
ـ أوامرك يا خالد باشا.
اللهم اقسم لي من خشيتك ما تحول به بيني وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغني به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علي مصائب الدنيا♥️
★★★★★★★★
كانت على صفيح ساخن تتقاذفها أمواج الغضب من كل الجهات لتقوم بجذب هاتفها و إجراء مكالمة و ما أن سمعت صوت رؤوف حتى صرخت باحتقار:
ـ ارتحت دلوقتي يا رؤوف بيه؟! خربت بيتها و ارتاحت؟!
رؤوف بصدمة:
ـ في أيه يا أشجان؟ و بيت مين اللي اتخرب؟!
أشجان بانفعال:
ـ آسيا اللي اتعاونت انت والحقيرة التانية عشان تخربوا بيتها؟! وصلت بيك الحقارة انك تسجلها و تدي التسجيل لأخت جوزها؟! قد كدا انت قذر!
رؤوف بذهول:
ـ أنتِ بتقولي ايه؟ تسجيل أيه ؟!
أشجان باحتقار
ـ أسأل نفسك. حسبي الله ونعم الوكيل فيك يا رؤوف. كمال طلق آسيا و آسيا هتموت من القهرة، و كل دا بسببك.
أنهت جملتها و أغلقت الهاتف في وجهه وهي تبكي بحزن ليصل إليها أنين آسيا من الداخل، فهرولت إلى الغرفة لتتفاجئ حين رأت تلك الدماء التي تتساقط من فم شقيقتها.
اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال ♥️
★★★★★★★
كان يجلس بحزن واضعًا رأسه فوق يده يتذكر ما حدث منذ يومان في قسم الشرطة:
عودة إلى وقتٍ سابق
ـ في حد بيغـ.تصب مرته يا محمد بيه؟!
هكذا تحدث رحيم بجمود أمام ظابط الشرطة الذي قال:
ـ يعني البلاغ دا كاذب يا عمدة، وانت محاولتش اغتصا.ب المدعوة نجاة سليمان، و حبس والدتها؟!
رحيم بجفاء:
ـ متعيدهاش اومال! بجولك مرتي، و دي القسيمة، و أمها دي معمريش شفتها.
التفت الضابط إلى نجاة قائلًا:
ـ سمعتي كلام العمدة؟!
حين أوشكت على الحديث تدخل رحيم قائلاً:
ـ معلش يا حضرة الضابط. سيبنا وحدينا شوي، واني هعرِف أراضي مُرتي.
أطاعه الضابط ليُفسح المجال لكليهما بالحديث، لتهتف نجاة بقهر:
ـ أنت الكذب عندك عادي اكده؟! بتكذب و عنيك في عنيا من غير ما يرفلك چفن؟!
رحيم محاولًا الهدوء:
ـ إني مكذبتش يا نچاة. إني فعلًا مغتصـ.بتكيش، الليلة دي أني مجربتش منك، و أنتِ عارفة أكده..
هبت من مكانها تهتف بقهر:
ـ بس حاولت، و دا چريمة لازمن تتعاقب عليها.
ـ و أني موافج.
تفاجئت من رده، بل و تفاجئت أكثر حين نصب عوده الضخم وهو يقول بخشونة:
ـ لو عايزة حجك خديه مني يا نچاة. خديه بيدك. الحكومة مهتهعملكيش حاچة. اني هنا السلطة، و محدش هينصفك غيري.
نجاة بانهيار:
ـ بتعجزني إياك؟! بردك هاخد تاري منِك.
رحيم بنبرة مُشجبة و عينان تتوسلان الصفح:
ـ لاه. عمرك ما تعچزي واني موچود.
توسعت عينيها حين جذب سلاحه من بين طيات ملابسه، وهو يمده إليها قائلًا:
ـ خدي تارك مني، واني راضي و موافج.
ارتعبت من شكل هذا السلاح حتى أن جسدها ارتجف وهي تقول بأحرُف متقطعة:
ـ لاااه. بعدو عني. بعدو عني.
على الفور أعاده مكانه وهو يهتف بلهفة:
ـ خلاص. اهدي رچعتو مكانو اهدي.
تساقطت العبرات من مقلتيها بغزارة وهي تهتف بلوعة:
ـ ليه عِملت فيا أكده؟! ليه أنت اللي تقتلني اكده؟! ليه يا رحيم ليه؟!
لم يستطِع رؤيتها هكذا دون أن يجذبها بين ذراعيه بقوة وهو يهتف باعتذار:
ـ حجك علي، حجك على راسي، ياريتني موت واندفنت جبل ما اعمل فيكِ أكده.
عودة إلى الوقت الحالي
ارتجف قلبه وهو يتذكر كيف كانت تبكي و تنتفض كطير ذبيح بين يديه تشكوه جُرحًا كان هو فاعله ليشعر بإنقباضه صدره حين رجعت معه إلى البيت لتجلس بغرفتها مغلقة الباب عليها وهي تخبره أنها لا تريد رؤيته، و قد مر يومان وهو على هذا الحال من الألم و التعب حتى أنه لم يكن ينام من كثرة التفكير ليُصدم حين فُتِح باب الغرفة و أطلت عليه قائلة بحدة:
ـ أبويا فعلًا لسه عايش زي ما قولتلي قبل سابق ؟!
رحيم بجمود:
ـ أيوا عايش..
نجاة بجفاء:
ـ عايزة أشوفه.
لم يكن هناك بدًا من معرفة الحقيقة لذا قال باختصار:
ـ محبوس، و قبل ما تسألي أنا اللي حبسته.
اللهم إني أسألك من الخير كله عاجله وآجله، ما علمت منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله، ما علمت منه وما لم أعلم، اللهم إني أسألك قلباً سليماً، ولساناً صادقاً، وعلماً نافعاً، ورزقاً طيباً، وعملاً متقبلاً♥️
★★★★★★★★★
كان يُنهي بعض الأوراق حتى يعود للمشفى ليطمأن على أشجان، ليُصدم حين فُتِح باب الغرفة و رأى رؤوف يطل عليه ليهتف خالد بشراسة:
ـ أنت…
