رواية عاشق قهر النساء الفصل التاسع عشر 19 بقلم صباح عبد الله فتحي


 رواية عاشق قهر النساء الفصل التاسع عشر 

داخل مكتب وكيل النيابة وقف عشق كلوح جليد لا يتحرك، ولم يُظهر أي ردّة فعل لمشاعر الحب والتعاطف المحيطة به. نظر بجمود نحو شوق، ولم يُجِب على سؤال حازم، وهتف بصوت حاد قائلًا:

"زييييين…"

عقد كلٌّ من حازم وقاسم وشوق حاجبيه باستغراب، ووقف الثلاثة يرقبون دخول زين الذي دلف على الفور، وفي يده جهاز اللاب توب الخاص بعشق، ومن خلفه دخل اثنان من البودي جارد العاملين في القصر تتوسطهم مُشرفة الخدم. نظرت شوق بتعجّب لها تارة، ولعشق تارة أخرى، والتزمت الصمت حتى تفهم ما يجري حولها.

أثناء ذلك أسرع زين ووقف أمام المكتب وفتح الجهاز الذي بحوزته ليُري للمحقق الجالس أمامه مقطع فيديو على شاشته… لتتسع أعين شوق والجميع بدهشة وذهول عندما ظهرت على الشاشة شوق داخل المطبخ وهي تُحضّر الطعام، وفي وسط ذلك ألقت زجاجة صغيرة في سلة القمامة.

وفي لحظة انشغالها انحنت مشرفة الخدم ورفعت الزجاجة من السلة، وأفرغت محتواها في الطعام الذي جهزته شوق دون أن تلفت انتباه أحد…

أغلق زين الجهاز بينما نظر الجميع إلى المشرفة التي حنت رأسها بخجل وخوف، بينما نظرت شوق لها ولعشق بشك واضح ولم تقتنع تمامًا بما رأته. هتف قاسم بحزن ونبرة حادة موجّهًا حديثه للخادمة.. 

"معقولة انتي يا هانم يطلع منك كل ده؟ طيب ليه؟ بابا زعلك في إيه؟ ولا شوق بنتي اللي لسه عارفاكي امبارح عملتلك إيه عشان تعملي فيها كده؟"

ظلت هانم على حالها، لم تقوَ على رفع رأسها أو النطق بشيء ولم تدافع عن نفسها أو تبرر موافقه وكأنها مجبورة علي الصمت وتحمل مسؤولية شيء لم تفعله..  نظرت لها شوق بحزن شديد، فهي تعرف أنها لا ذنب لها فيما حدث. كانت ستتحدث وتنكر ما يحدث، لكن أوقفها عشق عندما قبض على معصمها بقوة وسحبها خلفه وتوجه للمغادرة، قائلًا بحدة موجه حديثه للمحامي الواقف بالقرب، وكان الدليل الذي قدمه عشق كطوق نجاة من قضية لا حل لها:

"خلاص… الإجراءات يا متر."

زفر المحامي بعمق، وتقدم لينهي إجراءات خروج شوق من تلك التهمة، بينما نظر قاسم وحازم لبعضهما بدهشة واستغراب، ولا يفهم أحد ما يحدث. ثم أسرع قاسم خلف عشق وهو يقول بهدوء حاد:

"استنّى يا عشق… انت واخدها ورايح على فين؟"

بينما وقف حازم ينظر إلى هانم بشرود وشك؛ فهو مثل شوق لم يقتنع بما شاهد، لكن ليس هذا الوقت المناسب ليحقق في الأمر، وسيعرف الحقيقة لاحقًا بطريقته الخاصة.

وبخلاف ذلك… تغيّر عشق المفاجئ الذي لا تفسير له غير تفسير واحد هو غير متأكد منه. توجه للمغادرة، وقبل أن يخرج نظر إلى هانم التي كانت تبكي بصمت وقلة حيلة، وهتف قائلًا:

"صدقيني… لو اللي شوفته ده حقيقي، أنا مش هخلّيكي تشوفي الشمس تاني. انتي فاهماني؟"

أنهى حديثه وتوجه ليلحق بقاسم وعشق ليعرف ما سيجري بعد ذلك. ومن ملامح عشق، تأكد أن هناك كارثة جديدة سوف تحل عليهم قريبًا، وأن كل ما يحدث في الأيام الأخيرة مجرد تمهيد لشيء أكبر…
ــــــــــــــــــــــــــــــ

في سيارة نيل، كان يقود على الطريق بلا هدف، لا يعرف ما يفعله أو من أين حصل على تلك القوة والشجاعة ليتخلى عن عائلته وثروتها وكل شيء يملكه من أجل فتاة يستطيع بإشارة واحدة أن يجلب ألف واحدة غيرها. أفاق من شروده على صوت نيلي التي تجلس بجواره، تنظر له بهدوء وفي عينيها نظرة حنين غريبة لم يفهمها نيل عندما التفت إليها على صوتها وهي تقول بهدوء، مقدّرة ما فعله من أجلها كما تظن هي:

"انت ليه اخترتني يا نيل؟ كان ممكن نطلق عادي…"

ضغط على فرامل السيارة لتتوقف فجأة، فتأرجح جسد نيلي للأمام، وكانت ستصطدم رأسها بالزجاج الأمامي لولا ذراع نيل الذي امتد تلقائيًا أمامها كدرع حماية… سواء كانت حركته بقصد أو بدون قصد لا يريدها أن تتأذي مهما حدث. نظرت نيلي إلى ذراعه بتعجب ثم رفعت رأسها نحوه تنظر له، فتوتر نيل وأبتعد عنها علي الفور وهو يقول بهدوء:

"أنا آسف… ماخدتش بالي إنك مش حاطة الحزام."

شعرت نيلي بدقات قلبها تتسارع، ولأول مرة يراودها شعور بالأمان… خصوصًا اتجاهه ذلك المتجعرف كما كانت تراه. تغلغلت الدموع في عينيها وهي تقول بهدوء:

"شكراً."

زفر نيل بضيق، ومال برأسه على كفه قائلاً بقلق شديد:

"أنا بجد مش عارف أعمل إيه… ولا عارف أنا رايح على فين. كل اللي كنت فيه كان باسم الجوكر، وحتى العربية اللي إحنا فيها دي برضه باسم الجوكر… وأنا متأكد بابا مش هيسكت على اللي أنا عملته، وهيسحب الرخصة مني، وحتى حسابي في البنك هيقف… أنا عارف."

شعرت نيلي بالشفقة عليه، ورفعت يدها لتواسيه، لكن قبل أن تلمسه تفاجأت بتغيّره المخيف… في لحظة واحدة تحوّل من طفل ضائع إلى وحش كاسر. هجم عليها، وقبض على عنقها بقوة وهو يقول بغضب شديد، وأنفاسه الحارة تلسع بشرتها المحتقنة بسبب الاختناق:

"وكل ده بسببك… بسبب واحدة راقصة زيك! أنا كنت قادر أرميكي مكان ما جبتِك منه… بس…"

توقف فجأة ولم يكمل، ثم تركها بغضب وصمت.
أما هي فرفعت يديها على عنقها تلهث بشدة، صدرها يعلو ويهبط، وبعد ثوانٍ شعرت بأنفاسها تعود إليها.
نظرت له ودموعها تنهمر على خديها قائلة بحزن علي الحال الذي وصلت له ونبرة صوتها كانت حادّة يائسة من الحياة:

"وليه اخترتني؟ وانت عارف إنك قادر ترميني مكان ما جبتني؟"

قاطعها بصراخ مفاجئ:
"وإنتي عاوزاني أسيبك عشان تروحي لحبيب القلب… صح؟!"

وفي وسط الشجار… ورغم الحزن والتوتر الذي بينهم ضحكت نيلي. ضحكت رغم دموعها. ضحكت من قلبها… ضحكة لم تعرفها منذ موت ولديها. نظر لها نيل باستغراب، ورغم غضبه شعر بفرحة غريبة بداخلها، فهذه أول مرة يرى فيها تلك العنيدة تضحك. هتف بغضب زائف يخفي به ما يشعر به من فرحة بداخله:

"ممكن أعرف قلتِ إيه يضحك يا هانم؟"

نظرت له بابتسامة ارتسمت على خديها، زادتها جمالًا، وهي تقول:

"بصراحة… مش قادرة أصدق إنك خسرت كل حاجة علشان كده. إنت أغبى واحد شوفته في حياتي."

ثار نيل عليها بغضب شديد، وأمسك ذراعها بعنف قائلاً:

"وإنتي شايفة ده سبب يضحكك؟! انتي مراتي… سواء بمزاجك أو غصب عنك. ومش أنا اللي أسيب مراتي لراجل تاني… حتى لو هخسر روحي مش ثروتي!
انتي فاهمة؟!"

كانت على وشك أن تردّ عليه وتكشف له كذبتها التي اخترعتها في لحظة غضب…لكن قاطعها نيل عندما اقترب منها بقوة، وقبض على شفتيها بقبلة عنيفة، وكأنه يخبرها أنها ملكه… ملكه هو فقط، ولن يتخلى عنها مهما حدث.

تفاجأت نيلي في البداية، لكنها شعرت بالضعف… والحنين… والحب تجاهه. استسلمت، وتجاوبت مع قبلته، وفي تلك اللحظة نسي كلاهما كل ما يمران به…

وبينما يحدث ذلك…كان ساهر خارج السيارة، يلحق بهما بسيارته. وعندما توقفت سيارة نيل، نزل بسرعة لينقذ شقيقته من بين مخالب ذلك الثور نيل… لكنه تجمّد في مكانه عندما رأى ما يحدث بينهما.

شعر بالغيرة… بالغضب… وانقبضت يداه بقوّة حتى برزت عروقه. ودون أي مقدّمات، توجّه وفتح باب السيارة من جهة نيلي، وسحبها بعنف ليخطفها من عالمٍ كانت هي ملكته الوحيدة، ويقطع لحظة تمنت أن تعيش فيها ما تبقّى من عمرها. 

أما نيل الذي كان غارقًا في حبها… استفاق كمن كان يعيش حلم جميل وسقط عليه دلو من الثلج. وفي لحظة، تحوّلت ملامحه إلى غضب جامح، واحمرت عيناه، عندما رأى ساهر يسحب نيلي ليخرجها من السيارة. وفي حركة غاضبة متلهّفة، فتح نيل الباب الآخر وغادر وهو ينوي قتل ذلك الأحمق… ساهر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

اما في القصر... دلف عشق يسحب في يداه شوق وبحركة عنيفه دفعها لتسقط علي وجهها فوق الارض رفعت رأسها تنظر له بذهول ولم تصدق ان ذلك نفس الشخص الذي كان سوف يضحي بيحياته منذ قليل من أجلها. من خلفها دخل قاسم مسرعًا توجهه لشوق يساعدها تنهض وهو يصيح بغضب موجهه حديثه لعشق الذي يقف يلهث من بشدة وعينيه مشتعله بالغضب وهو ينظر الي شوق وكأنها سلبت منه شيء غالي كان يمتلكه. 

انت اتجننت ازاي تعمل كده في اختك؟ 

صاح عشق بغضب جامح وهو يشير بداه نحوهم. 
هي مش اختي... وانا عاوز اعرف حاجه واحده اي ده... 

أخر من جيبه مستند وصية جلال كتبه قبل موته القي الاوراق أمام قاسم وهو يقول بغضب.. بينما نظر قاسم بذهول واستغراب الي الاوراق المتناثرة حوله ابتلع ريقه بتوتر وخوف وهو لا يعرف كيف سوف يواجه غضب عشق الان. 

يعني ايه انا ماليش الحق اورث حاجه من ممتلكات العيله وازي انا ابنك وبنتك مش أختي... 

في تلك اللحظة كانت كوثر تهبط الدرج علي سماع صوت عشق وتتابعها ياري وأسيل.. اكملت ياري وأمها نزول الدرج مسرعين ليعرفوا ما يحدث بينما وقفت كوثر مكانها تراقب ما يحدث بابتسامة شامتة وهي تتزكر ما يحدث بينها هي وعشق وكيف قلبت الأمور لصالحة في للحظة واحده. 

(ذكريات كوثر... منذ ساعات) 

في جناح كوثر كانت تجلس على ذلك المقعد تنتظر لتري كيف سوف يقضي عليها عشق بعد معرفت كل ما فعلته وكانت تخطط له. لكن انقلبت الموازين عندما فتحها عشق في موضوع موت سامح وزوجته تبسمت بمكر وكأنها مسكت في طوق النجاة نهض وقفت امامه شامخة كأنها لم تكن تلك الضعيفة التي تنتظر موتها منذ قليل وهي تقول. 

معايا لك حاجه مهما اوى يا عشق اظن انها هتفيدك جدا... ثواني 

توجهت الي غرفة نومها وقف عشق للحظة يتراقب عودتها ليعرف ما تتحدث عنه.. وبعد للحظات عادت في يداه مستند قدمتها لعشق وهي تبتسم وقبل ان يلمسه رفعتها بحرك ساخرة وهي تقول بنبرة خبيثه ساخرة. 

توتوتو.. مش بسهولة كده ياروح عمتوا... اضمن الاول اني ماليش دعوه بموت بابا حبيبي وبعدين اعتبر الملف ده في ايدك. 

وضع عشق يداه في جيب بنطاله نظر لها بغرور قائلا

انتي اكتر واحد عارفه اني ما تمسكش من ايدي اللي توجعني يا عمتوا. 

توجهة وجلست علي المقد رفعت قدم فوق الاخري واخذت كأس نبيذة تشرب من وهي تقول بهدوء مريب. 

طبعاً... طبعاً ياروحي عارفه.. بس صدقني الملف ده في برمجة مهما جدا هتغير حياتك للأبد. 

عقد عشق حاجبيه باستغراب وهو ينظر للملف قائلا بفضول واضح. 

قصدك ايه الملف ده في ايه؟ 

اجابته بابتسامة ساخرة متجعرفة سعيده برايته محتاج لها وانها استطاعت قلب الطاولة في للحظة واحده.. وبعد ما كانت هي المحتاجة اصبحت المحوج لها.. 

في حقيقه كافيه تخليك تندم علي عمرك اللي راح هدر. يلا بسرعه حبيب عمتوا مافيش وقت اضمني وانا اديهولك وتشوف بعيونك

نظل عشق صامتًا للحظة ينظر للملف وهو يفكر في ما سوفه يقوله لان. ثم تنهد بهدوء مد ايده لها ليأخذ منها الملف قائلا بحاد. 

تمام يا عمتوا وانا بضمنلك انك هتطلعي منها زي الشعره من العجين. 

تمسمت بسعادة ونهضت بحركة طائشة عانقته وهي تقول بفرحة

حبيبي قلبي اللي شايل هم عمتوا.. 

نظر لها بحنق واخذ منها الملف بحركة عنيفه وان راي محتواة اتسعت عينيه في دهشة وذهول.. بينما كوثر ابتسمت بخبث وهي تشرب من الكأس ثم هتفت قائلة بشماته. 

اظن الملف ده اهم بالنسبة لك دلوقتي...اما بالنسبة لموت سامح ونور ده موضوع عميق اوى انا ماليش دعوه بيه 
 
الحاضر

أفاقت من شرودها على صوت عشق العالي يصرخ في وجه قاسم بغضب شديد قائلاً:

عاوز أعرف حاجة واحدة… أنا ابنك ولا لا؟

نظر له قاسم بحزن شديد وظل صامتًا للحظة يفكر في إجابته قبل أن يجيب بشيء، ثم تنهد بهدوء وهتف قائلاً:

أظن جه الوقت المناسب اللي تعرف فيه الحقيقة يا عشق… بس عايزك تتأكد، سواء كنت ابني من دمي ولحمي أو لا… انت مكانك مش هيتغير، سواء في قلبي أو في العيلة…

نظر له عشق بذهول قائلاً وهو يشير بيديه على نفسه:

يعني إيه… أنا مش ابنك؟

زاغ قاسم ببصره نحو كوثر الواقفة على الدرج، طال النظر لها مما جعلها تعقد حاجبيها متعجبة من نظرات قاسم. شعرت بالخوف يتربص في سكون الصمت المحيط بها. ثم عاد قاسم بنظره نحو عشق قائلاً بهدوء مريب:

لا يا عشق… انت مش ابني من لحمي ودمي… بس انت ابني اللي ربيته وكبر قدام عيني…

قاطعه عشق ودموعه تنهمر على خده لأول مرة قائلاً بصوت مكسور بالكاد يُسمع… كانت شوق واقفة تبكي بحرقة حزنًا عليه، فهي تشعر بما يشعر به الآن وتعرف مقدار ذلك الألم الذي بداخله لكن لا تقوي علي الإقتراب منه أو فعل شيء له الأن…

طيب… لو أنا مش ابنك… أنا ابن مين؟

نظر قاسم للمرة الثانية حيث تقف كوثر، وملامحه ارتبكت… لم تتحمل كوثر وحش الخوف والشك الذي يطاردها، فهتفت هي الأخرى بخوف مريب:

ساكت ليه يا قاسم؟ عشق بيكون ابن مين؟

نظر لها قاسم بهدوء مريب قائلاً بحزن:
معقولة يا كوثر؟ كل السنين دي… قلبك ما حَنَّش؟

تعليقات